غزة – محمد ابو قمر
"بنتي ماتت، اكتشفوا تلوث بدمها"... برجفة في جسده وحديث متقطع صاحبه "تأتأة" يحاول التعبير عما ألم به، وعندما عجز لسانه عن وصف معاناته اكتفى بالإشارة على مكان سكنه الكئيب في ذكرياته.
سلسلة المعاناة الممتدة التي ضاعفت عمر الأربعيني أبو أحمد تزداد حلكة يوما بعد يوم، بعدما غزا الشيب رأسه وسيطر مرض الأعصاب على جسده المرتجف.منذ سنوات يتنقل أبو أحمد بين المنازل المستأجرة، وعندما لم يقو على دفع مستحقاتها، ترحل بين الأراضي الخالية القريبة من شاطئ البحر.
بعد تنقلات عديدة حط أبو أحمد وأسرته في أرض خالية على شاطئ البحر بها غرفة وحيدة غير مكتملة البناء، وتبين فيما بعد أنها تتبع للحكومة.
لملم أطفاله الصغار في تلك الغرفة المظلمة، "لا كهرباء، لا ماء، ولا حمام" يقول الأب، لكنها تستر فقره.
تعود الغرفة التي يقطن بها أبو أحمد به لعصور قديمة غابت عنها متطلبات الحياة... يشعل الأخشاب التي يلتقطها من الشارع ليكمل طهي قطع من اللحوم حصل عليها في عيد الأضحى، ويقول أنه وأطفاله لن يتذوقوا اللحم بعد ذلك إلا العام المقبل.
بابتسامة ممزوجة بحسرة خطت عليها تجاعيد الزمن "اللي بيشوفني ساكن عالبحر، بيحسبني فوق ريح، والله ما بحب اشكي"، هكذا اعتاد أبو أحمد الذي يضطر كل صباح نقل جالونات مياه الشرب من استراحة قريبة بالإضافة إلى القيام بالأعمال المنزلية.
وغاب الطعام عن المنزل كما لاحظت "الرسالة"، وكل ما تملك العائلة بقايا أفرشة قديمة، وملابس مهترئة.
يراقب أبو أحمد الشمس وهي تسدل ستارها في عرض البحر، وتختلف انطباعاته عن هذا المنظر الذي يسر الجميع، فهو يفكر كيف سيقضي ليلته دون كهرباء، والأرض مفتوحة من حوله والكلاب تنتشر في المنطقة.
لم يمض أسبوعان على فقدان أبو أحمد لطفلته ذات الخمس سنوات، بعدما عانت من ارتفاع درجة الحرارة، ولم يقو على علاجها، ومع تدهور حالتها نقلها من المستوصف إلى مجمع الشفاء ليعلن الأطباء عن وفاتها، بعد أن أظهرت الفحوصات أن دمها ملوث نتيجة الطعام الرديء الذي كانت تتناوله.
حكاية مأساة لم تنته بموت طفلته، ويخشى والدها على شقيقتها التي تعاني من ذات الأعراض.تخنق ظلمة الحياة أبو أحمد، ويعصره الفقر بين فكيه الحادة، لكنه لم يجد مفرا سوى التسليم بالواقع المؤلم.
أحاط أبو أحمد جزءا خارجيا من الغرفة بقطع النايلون ليكون دورة مياه، وكلما يجد قطع من الأخشاب والأقمشة يحاول تدعيم مكان سكنه.
الطفلة الأكبر لأبو أحمد تضطر قطع مسافة طويلة للوصول إلى مدرستها كل يوم، والمصروف اليومي غائب عنها دائما، بحسب والدها.
مع طرق الشتاء لأبوابه يحتار الوالد في كيفية توفير فراش دافئ يجمع عظام أبنائه التي نهشها المرض، ويخشى من المجهول القادم في حال قررت جهة ما إخراجه من غرفته.
يختلس الأب نظرته لطفلته المريضة المستلقية على فراش متهرئ، والخوف يخيم عليه من أن تلحق بشقيقتها، ويطوي أحزانه بداخله ليقول "والله بحكي وأنا خجلان من الشكوى".
"ألم وأمل" تدق بكلماتها قلوب أهل الخير وأصحاب الأيادي البيضاء، ليطلقوا لعقولهم العنان ويرسموا صورة المأساة التي تفوق الخيال، وتفتح المجال أمام مساندة أسرة أهلكها الفقر وطوى حياة طفلة لا ذنب لها سوى أن والدها محتاجا.