ولد ذاك الاتفاق المشؤوم ميتاً، تحدث العالم عنه بكثير من الاهتمام والدعم، وفجأة فتح المجتمع الدولي ذراعيه لاستقبال قيادة منظمة التحرير في كل المحافل، وفتحت معه خزائن المال والإسناد والدعم السياسي، والخبرات الأمنية.
كان المطلوب أن يتحول الفلسطيني من ثائر مقاتل إلى رجل دولة برجوازي، وهذا ما جرى.
28 عاماً مضت على توقيع اتفاق "أوسلو" الذي شكّل منعطفًا مهمًا في مسار القضية الفلسطينية، فقد أنهى الصراع المسلح بين منظمة التحرير والاحتلال، ورتب لإقامة سلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما تخلت المنظمة عن الفلسطينيين في أراضي 1948 واللاجئين في الخارج.
في تلك الاتفاقية حصل الاحتلال على كل ما يريد تقريباً ولم يحصل الفلسطيني على شيء سوى دولة من ورق، وجرى تقليم أظافر الفلسطيني الثائر المقاتل بأيدٍ فلسطينية بحجة المشروع الوطني والوصول إلى الدولة.
الاتفاق الذي تحصل منه الفلسطينيون على سلطة منزوعة الصلاحيات والسيطرة، أجل كل قضايا الحل النهائي لمفاوضات 1999 التي انتهت بفشل ذريع، ورغم ذلك لم يتم حل السلطة بل استمر عملها.
ومن ينظر للواقع الفلسطيني اليوم يرى أن الاحتلال حسم قضايا الحل النهائي من طرف واحد ولم يبق للسلطة ما يمكن التفاوض عليه.
أولاً: فيما يتعلق بالأرض والانسحاب من الضفة الغربية فإن الاحتلال لا يخفي نواياه لضم الضفة الغربية خاصة مناطق "ج" واستمرار سيطرته الأمنية والإدارية على باقي المناطق كما يعتبر أن هذه المسألة محسومة ولا تخضع للمفاوضات.
وقد خصص الاحتلال 42% من أراضي الضفة للتوسع الاستيطاني، من ضمنها 62% من أراضي مناطق "ج"، فيما ارتفع عدد المستوطنين من 111 ألف إلى 850 ألف بعد توقيع الاتفاقية، وذلك بعد مرور 50 عامًا على النكسة، وباتت السلطة لا تملك السيطرة إلا على مقر المقاطعة وسط رام الله.
ثانياً: القدس: شكلت الاتفاقية فرصة ذهبية للاحتلال للاستفراد بالمدينة المقدسة، فعمل على سلخ القدس بشكل كامل عن محيطها الفلسطيني، وقطع أوصالها مع الضفة الغربية وقطاع غزة، كما عزل القدس سياسياً وجغرافياً عن محيطها الفلسطيني
وخلال سنوات أوسلو دمرت البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المدينة على مراحل، فقد ارتكب المفاوض الفلسطيني خطأ إستراتيجياً وتحلى نظيره "الإسرائيلي" بدبلوماسية عالية بهدف ضم شرقي القدس جغرافياً، لكن دون ضم سكانها الفلسطينيين، وهذا يفسر وجود 140 ألف مقدسي حالياً خلف الجدار العازل بوضع قانوني غير مستقر ويعتبر ذلك أحد تداعيات أوسلو.
ثالثاً: اللاجئون: تلقى اللاجئون الفلسطينيون الطعنة الأكبر على يد من وقع اتفاق أوسلو الذي ألحق باتفاقيات وبروتوكولات أخرى شكلت كلها سلسلة في محاولة الالتفاف عليه وإنهائه، وتحول حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم الأم من حق كفلته القوانين الدولية وعلى رأسها القرار 194 إلى بند تضمنته اتفاقية أوسلو ينص على "إيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين".
وهذا البند تحديداً يتعرض لمحاولات تصفية على يد الاحتلال والإدارة الأمريكية المتحكمة بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" المستهدفة باستمرار وبما يصدر عن الولايات المتحدة من تصريحات تشكك بعدد اللاجئين الفلسطينيين وتسعى إلى سحب الاعتراف بهم وبالتالي بحقهم في العودة إلى أرضهم.
وتكمن خطورة أوسلو في أنه منح الاحتلال بإقرار فلسطيني "حق الوجود" على 78 % من أراضي اللاجئين الفلسطينيين، وتأجيل إيجاد حل لقضية اللاجئين الفلسطينيين إلى ما يسمى "مفاوضات الحل النهائي" والتي على ما يبدو لن تتم إلا بعد أن تكون السياسات الأمريكية – الإسرائيلية قد أجهزت على حق عودة اللاجئين، لكن الأخطر هي سياسة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية التي غيبت دور اللاجئين الفلسطينيين.
رابعاً: الدولة: لم يعترف الاتفاق بدولة فلسطينية على حدود 1967 ولم يمنح الفلسطيني أكثر من حكم ذاتي واعتراف بمنظمة التحرير مقابل اعتراف فلسطيني بدولة الاحتلال وحقها في الوجود وهي جريمة لما تمثله من ضرب للرواية الفلسطينية التاريخية، ويتضح بعد قرابة ثلاثة عقود على الاتفاق أن الاحتلال منح السلطة وهماً تسميه مشروع الدولة.
بالنظر لقضايا الحل النهائي يكتشف الفلسطيني أنه تعرض لأكبر عملية خداع، كما أسس اتفاق أوسلو لأكبر انقسام في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر، وتحملت قيادة حركة فتح "وزر" الاستفراد بقرار مصيري.
بعد ثلاثة عقود تقريباً تحول أوسلو من صك يعد بإقامة دولة للفلسطينيين، إلى ورقة تلزم السلطة فقط، بما بات لا يطيقه هذا الشعب من تنسيق أمني ومفاوضات من أجل المفاوضات وصمت قانوني رسمي فلسطيني على ضياع الأرض.
وتحولت السلطة لوكيل أمني للاحتلال تحمي أمنه ومستوطنيه وتتجنب أي صدام معه، مقابل امتيازات مالية وتسهيلات لمشاريعهم الاقتصادية، حيث أن معظم قيادات السلطة هم أصحاب مشاريع استثمارية يتطلب نجاحها واستمرارية ضخها الأموال لجيوبهم القبول بالأمر الواقع بل والمحافظة عليه دون تغيير، ومنع أي محاولات شعبية للتغيير.