في أحد البنوك العاملة بقطاع غزة، يقضي الموظف "م.س" بعض وقته بسحب أموال من حسابه في نفس البنك، بعملة الدينار الأردني ليصرفها في السوق السوداء بعد الاتفاق مع أحد الصرافين، مستفيدا من فارق العملة بين البنك والسوق.
الموظف "م.س" الذي يودع أموالا في حسابه بعملة الشيكل الإسرائيلي، ويأخذها من حسابه بعملة الدينار الأردني على سعر الشاشة (4.52)، ليصرفها في السوق السوداء على سعر (4.71).
في هذه الحركة البسيطة، يربح "م.س" 19 شيكلا (قرابة 4 دنانير) على كل مائة دينار، في وقت علِم معد التحقيق أن المبلغ يبلغ ألفي دينار ويُحوّل بشكل شبه يومي للصراف، وهو ما يُربح الموظف 80 دينارا يوميا.
وتكمن المشكلة في استغلال موظف لمكان عمله في تحقيق مكاسب غير مشروعة، في وقت أكد أكثر من مصدر مطلع أن القضية تكررت، وهو ما دفع بعض البنوك لتشديد السحب على العملات.
مضاربات ومنع البنوك
ووفق مصادر لـ "الرسالة" فإن المضاربة -ما حدث مع موظف البنك م.س يوضّح المقصود بالمضاربة- على عملة الدينار ازدادت في الآونة الأخيرة، وهو ما دفع بالبنوك الفلسطينية لرفض الصرف للعملاء بعملتي الدولار الأمريكي والدينار الأردني، بحجة عدم وجود مبالغ كافية للصرف بالعملات الأجنبية، وتعرض عليهم قيمة المبلغ بالشيكل الإسرائيلي.
وبسبب اختلاف سعر صرف عملتي الدولار والدينار في السوق السوداء عن سعرها في البنوك، باتت المضاربات على العملة تزيد من خسائر البنوك وخصوصا عملة الدينار الأردني.
وفي حديث أحد موظفي البنوك بقطاع غزة –رفض ذكر اسمه-، أكد أن هناك استغلالا واضحا من بعض التجار وعملاء البنوك لاختلاف سعر الصرف بين البنوك والسوق السوداء للمضاربة على العملة وتحقيق أرباح.
وذكر الموظف أن سعر صرف عملية الدينار الأردني في السوق مرتفع بسبب قلة المعروض من الدينار ويصل لقرابة 4.70 شيقل، في حين يتراوح سعرها في البنوك بين (4.5- 4.53)، "وبالتالي نجد أن فرق السعر فرصة خصبة للمضاربة دون حلول".
وأوضح أن البنوك مضطرة للالتزام بتسعيرة سلطة النقد التي تنضبط بسعر الشاشة بعيدا عن سعر الصرف في السوق السوداء.
ولعل المضاربة على عملة الدولار الأمريكي لم تختلف كثيرا عن الدينار، سوى أن "فرقية العملة" بين البنك والسوق السوداء أقل.
ويعيش قطاع غزة بيئة مضطربة في أسعار الصرف، بفعل الحصار المفروض على القطاع، وصعوبة كبيرة في إدخال العملة الناقصة، وإخراج الفائض من العملة الأخرى.
سبب الأزمة
وتحدث الصراف خالد حمد عن أزمة كبيرة في توفر الدينار في الأسواق، قائلا: "يأتي الزبون لتحويل عملة الشيكل أو الدولار إلى دينار، ونعاني في تأمين المبلغ له".
وأوضح في حديث لـ "الرسالة" أن موسم الزواج والإقبال على الذهب بالإضافة لموسم الجامعات ودفع الرسوم بالدينار، مع بعض الحركة على العقارات زاد من الطلب على الدينار.
ولفت إلى أن المعروض النقدي من الدينار قليل بالنسبة لحاجة المواطنين، "وهو ما يفقد قطاع غزة العملة الأردنية".
وأشار حمد إلى أن قطاع غزة يعيش بيئة مضطربة في العملات بسبب حالة الحصار التي تفرضها سلطات الاحتلال منذ أكثر من 15 عاما.
وتجدر الإشارة إلى أن سلطات الاحتلال تمنع إدخال وإخراج العملات والذهب من وإلى قطاع غزة، وهو ما يؤدي الى ارتباك في أسعار الصرف، في حين أن سلطة النقد لا تقوَ على إدخال العملات إلا بموافقة سلطات الاحتلال والتي غالبًا ما توافق مرة أو اثنتين سنويا فقط، وبكميات مالية قليلة مقارنة بحاجة السوق الغزي.
بدوره، قال الصراف عبد الله كويك: "أزمة الدينار سببها جمع تجار الذهب الكبار للعملة الأردنية من الأسواق، حتى يصبح سعر الكسر لغرام الذهب مرتفعا في ظل إغلاق المعابر وتراكم كميات الذهب".
وذكر كويك أن رفع قيمة الدينار محليا، يرفع سعر الكسر بسبب زيادة الطلب.
وأضاف في حديث لـ "الرسالة": "في حال اختفاء الدينار من الأسواق –كما يحدث حاليا- يضطر تجار الذهب للهبوط بسعر كسر الذهب تدريجيا، وتعود العجلة لنفس عملية الدوران ليحقق التجار الربح على الحالتين".
وختم حديثه: "باختصار.. كسر منخفض وفش دينار بالسوق، وكسر مرتفع وفي دينار بالسوق".
مراقبة ومتابعة
من جهتها، قالت سلطة النقد إن عملية إدخال النقد إلى المصارف العاملة في قطاع غزة يحتاج إلى موافقة من الاحتلال، في ظل القيود التي يفرضها على المعابر، "وهو ما يصعب عمليات نقل الأموال".
وأجابت سلطة النقد على سؤال مراسل "الرسالة"، عن أسباب فقدان العملة الصعبة في غزة في كثير من الأوقات وما هي آليات سلطة النقد للتغلب على هذه الأسباب، بقولها إن هناك عدة أسباب أهمها ارتفاع الطلب على هذه العملات لانخفاض سعر صرف الدولار والدينار مقابل عملة الشيكل وانخفاض العرض من هذه العملات من المواطنين".
وأضافت سلطة النقد ردا على الإجابات عبر البريد الإلكتروني: "كما أن القيود المفروضة على المعابر تحد من قدرة المصارف على إدخال احتياجاتها من العملات لفروعها العاملة بقطاع غزة".
وعن شبهات الفساد في تعامل موظفي بنوك في المضاربات، أكدت سلطة النقد أنها تعمل وبشكل يومي على مراقبة أسعار صرف العملات وحجم السيولة النقدية المتوفرة من العملات المتداولة، موضحة أن المصارف تعمل على مراقبة حسابات وسلوك موظفيها وفقا للتعليمات وإجراءات العمل".
وشددت على أنه في حال وجود ما يشير إلى مخالفة الموظف يتم اتخاذ الإجراءات الإدارية والقانونية المناسبة وفق الأصول.
وعن موقف سلطة النقد من منع البنوك المواطنين سحب أموالهم بعملتي الدولار والدينار في أوقات كثيرة، قالت إنها حددت تعليمات بالحدود الدنيا الواجب على المصارف توفيرها من السيولة النقدية من العملات الرئيسية المتداولة بالسوق الفلسطيني وذلك على مستوى المصرف وعلى مستوى الفرع بهدف مقابلة عمليات السحب من هذه العملات.
وأكدت سلطة النقد أنها تعمل حاليا وبالتوافق مع المصارف على إدخال كميات كافية من عملتي الدولار والدينار إلى قطاع غزة.
وعن شكاوى المواطنين برفض صرف الحوالة الخارجية عبر البنك ومحلات الصرافة بعملة الدولار، دعت سلطة النقد المؤسسات المالية إلى دفع قيم الحوالات الواردة وفقا للتعليمات ذات العلاقة وبنفس العملة.
وتمثل قضية رفض صرف الحوالة الخارجية بالعملة التي أُرسلت بها، بابا للفساد والكسب غير المشروع، "بسبب إجبار البنوك ومحلات الصرافة لصاحب الحوالة على تلقي المبلغ بعملة الشيكل وبالسعر الذي يحدده البنك وهو ما يُفقد العملاء جزءًا من قيمة المبلغ المستحق".
وأضافت: "في حال الدفع بعملة أخرى يتوجب الحصول على الموافقة الخطية المسبقة من المستفيد، إلا أنه ونظرا للمعيقات المذكورة قد يحول ذلك دون إتمام الدفع بنفس العملة في بعض الأحيان".
ورغم تأكيدات سلطة النقد إلا أن مراسل "الرسالة" وأثناء مراقبة آليات السحب في أحد البنوك في جباليا شمال قطاع غزة، "اعتذر موظف البنك عن إعطاء احدى المواطنات الحوالة بعملة الدولار الأمريكي مع إمكانية صرفها بعملة الشيكل، لتضطر لتركها في الحساب لحين توفر السيولة".
معاناة السوق المحلي
ويرى عضو نقابة الصرافين الفلسطينيين، جهاد بسيسو، أن قلة السيولة في الأسواق الغزية والناجمة عن الحصار الإسرائيلي، خلقت أزمة في البنوك ومكاتب الصرافة.
وقال بسيسو في حديث لـ "الرسالة" أن سلطة النقد المسؤول الأول وبالشراكة مع البنوك على توفير السيولة اللازمة للأسواق، "وبالتالي يجب بذل كل جهد لتحقيق ذلك".
وأكد أن المضاربة على العملات الصعبة، ستنتهي بتوفير كميات من السيولة تحتاجها الأسواق، "وبالتالي المماطلة في إدخال الأموال يُعقّد الأزمة ويخلق فجوات إضافية".
وأوضح أن عملة الشيكل موجودة بكثرة في السوق المحلية على عكس العملة الصعبة من الدولار والدينار.
وأشار إلى أن هناك تقصيرا واضحا من سلطة النقد فيما يتعلق بالدور الرقابي والتنفيذي، مبينا أن سلطة النقد تُعطي التعليمات دون اهتمام كبير لتنفيذها من البنوك والصرافين".
وأضاف بسيسو: "إحجام البنوك عن إعطاء العملاء الدولار والدينار لفترة، دفع المواطنين لتخزين الدينار في البيوت وخارج البنوك بسبب تخوفهم من عودة الإشكالية مرة أخرى، وعدم قدرتهم على سحب الأموال".
وبيّن أن إغلاق المعابر ومنع التجار من مغادرة قطاع غزة إلى (إسرائيل) والضفة عمّق الأزمة، قائلا: "الكثير من التجار يُبدلون العملات بأسواق الضفة والقدس، وفي ظل الإغلاق زادت الأزمة".
وختم حديثه: "فيما يتعلق بالدولار الأمريكي فالمنحة القطرية حلّت جزءا كبيرا من الأزمة في الأسواق، في ظل ملايين الدولارات في الأسواق بشكل مباشر، أما الدينار الأردني فبحاجة لإدخال كميات إضافية".
بدوره، قال الأكاديمي والمختص في الشأن المالي، الدكتور معين رجب إن توازن السيولة النقدية في الأسواق مهم جدا لسير العملة النقدية وعدم وجود اختلالات في أسعار الصرف بين العملات.
وأوضح رجب في حديث لـ "الرسالة" أن السيولة النقدية تعتبر سلاحا ذا حدين في أي سوق، فزيادتها يُوجِد التضخم ويرفع من الأسعار، أما نقص السيولة فيخلق ارتفاع الأسعار وسوق سوداء للحصول على أفضل سعر.
وبيّن أن السوق السوداء تزداد في ظل الخلل في الكتلة النقدية المحددة للسوق، "وهو ما يخلق تجارة غير مشروعة ويفتح الباب على مصراعيه لقضايا فساد مالية وكسب غير مشروع".
وأشار إلى أن المشكلة الأساسية تتمثل في عدم وجود عملة وطنية والتعامل مع عدة عملات مختلفة، كما أن عدم التزام (إسرائيل) ببروتوكول باريس الاقتصادي والاتفاقيات الموقعة أحد الأسباب الرئيسية للمشكلة.
وفي حديثه عن المضاربة على العملات، أكد المختص بالشأن المالي أن مسؤولية سلطة النقد تتمثل في توفير سيولة بالأسواق، وإجبار الاحتلال وفق الاتفاقيات الموقعة على الالتزام بإدخال الأموال باستمرار.
ودعا لضرورة وجود سلطة أكبر لسلطة النقد على المصارف بإلزام البنوك بصرف العملات الصعبة للعملاء وعدم منعها، "وكذلك متابعة سير العملية المصرفية بوجود مراقبين عن السلطة في البنوك".
وفي ظل شبهات الفساد واستغلال المناصب ورواج السوق السوداء بسبب افتقار قطاع غزة للعملة الصعبة، توصل معد التحقيق إلى أن على سلطة النقد أخذ زمام المبادرة في إنهاء قضية نقص العملة في الأسواق، وتحقيق التوازن في السيولة النقدية وهو ما سيقضي على السوق السوداء.
كما يجب أن يتعدى دور سلطة النقد في قطاع غزة إصدار التعليمات إلى المراقبة في التنفيذ ومعاقبة البنوك ومحلات الصرافة وكذلك الموظفين الذين يثبت تورطهم في المضاربة على العملات واستغلال المناصب لتحقيق مكاسب غير مشروعة.