"أم مشير عاشور" جدّة فلسطينية تجاوزت الستين عامًا، تعيش في بيت متهالك بسقف مهلهل من "الزينقو"، في القرية السويدية بمحافظة رفح، على الحدود المصرية الفلسطينية أقصى جنوب غرب قطاع غزة.
في إحدى زوايا البيت الذي لا يزال يعاني من ضنك التراب، يصطف قارب صيد متهالك، كان يعمل عليه أبناء أم مشير، قبل أن يُجبروا على ترك المهنة؛ لعدم مقدرتهم على مواصلة الصيد.
تعيل أم مشير عائلة مكوّنة من 14 فردًا، دون دخل، ولم يكن سهلًا عليهم ترك البحر ومقارعته؛ لكن المرض مندفع دائمًا.
يشكو 4 من أبناء أم مشير من مرض الربو، 3 منهم متزوجون منذ نحو 10 سنوات، لكنهم يعانون مشكلة في الإنجاب، بينما طفل أخيهم الرابع (8 سنوات) مصاب بتليف في الكبد، وكلّهم متعطلون عن العمل.
أهالي القرية: نتعرّض للموت البطيء
تقول العائلة إن "مستودع الأمراض" الذي تعيشه، سببه بشكل أساسي انتشار "المجاري" في القرية، وعدم وجود قنوات لتصريفها غير تخزينها في حفر رملية داخل البيوت، فتتحوّل خلال فترة ركودها إلى سبب لعدم صلاحية الحياة في القرية.
يعيش في القرية أكثر من 2000 مواطن فلسطيني في بيوت اسمنتية، ويعتمدون على الآبار الامتصاصية لتصريف المجاري رغم أن عمر القرية تجاوز الـ 50 عامًا، ما يثير شبهات فساد حول تغييب متعمّد لمشاريع البنية التحتية عن القرية طيلة هذه المدّة؟ ويدعو للبحث حول المسؤولين عن بؤس سكانها؟
البنية التحية هي مجموع الخدمات التي تتولى الدولة أو الحكومة تقديمها، والمنشآت التي تتولى تشييدها وتشغيلها، لكن هذه الخدمات منعدمة تمامًا في القرية السويدية برفح، بشكل يتعارض مع المادة (25) للإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنصّ على أن "لكلِّ شخص حقٌّ في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهية له ولأسرته، وخاصَّةً على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية".
القرية اليتيمة
وسط أحراش وأشجار كثيفة داخل أسوار منزل قديم متهالك في القرية السويدية برفح، يختبئ نصب تذكاري تشُدّ أطرافه أحبال غسيل لأصحاب المنزل.
يمثل النصب هوية شخصية للقرية أو وثيقة خاصة بها، يوثق تاريخ إنشائها عام 1965م، أي قبل 56 عامًا.
تطلّ القرية الحدودية على البحر، ويفصلها عن الأراضي المصرية أمتار معدودة، ورغم عمرها إلا أنها تبدو كـ "قرية يتيمة" في القطاع؛ نظرًا لكونها مغيّبة عن أي مشاريع حيوية أو استراتيجية.
وبينما يتواصل قلق سكان القرية من أن تبتلعها أمواج البحر غربًا، في ظل تآكل أجزاء كبيرة من شاطئها كل عام، إلا أن الكارثة الأكبر هي أن القرية تعوم على مياه المجاري.
قبل انتصاف الشمس، رافق "معدّا التحقيق" المواطن رأفت حسونة، أحد قاطني القرية، الذي كلّف نفسه مهمة استقبال الوافدين للاطلاع على أحوالها الكارثية.
تجوّل "فريق التحقيق" داخل أزقة القرية، ويكاد لا يخلو زقاق من مياه الصرف الصحي، بينما تنتشر الحفر الامتصاصية على مفترق كل زقاق، ويضطر المارون إلى منازلهم للقفز فوقها.
يشير حسونة إلى أن 18 عائلة فقط -من أصل نحو 200 عائلة في القرية- تشترك بمبادرة ذاتية لسحب "المجاري" من الحفر الامتصاصية عند امتلائها، لكنه قال إن هذه الحفر تحوّلت إلى "بؤر تلوث".
رصد الفريق مجموعة أطفال يلعبون حفاة بجانب إحدى هذه الحفر، وحين سئل أحدهم ذي وجه شاحب، عن السبب، أجاب: "وين نلعب؟".
بعض العائلات الأخرى، لجأت إلى حفر قنوات رملية لتصريف "المجاري" خارج القرية، وسار "معدّا التحقيق" مع إحدى هذه القنوات حتى وجد أنها تنتهي عند بقعة كبيرة في الجانب الغربي لمسجد "الرحمة"، الذي يصلّي فيه أهل القرية على أطرافها الشمالية.
حين زار "فريق التحقيق" القرية، كانت "أم مشير عاشور" تبيت ليلتها في مستشفى أبو يوسف النجار بالمحافظة، حيث كانت ترافق أحد أبنائها الذي أصيب بالربو، ونقل على إثره إلى المستشفى.
تقول أم مشير لـ "معدّا التحقيق" إن "الجميع تسبب في مرضهم.. كبرنا في القرية على هذه الحال"، مضيفة: "نحن نتعرض للموت البطيء" ثم سكتت.
لا تشير التقارير الطبية التي بحوزة أم مشير إلى أسباب المرض، لكن المواطن رأفت حسونة ذكر أن عائلات أخرى في القرية تعاني من الربو أيضًا. ويقول: "هذا لا تذكره التقارير الطبية، لكن لا يمكن إنكار أن مصدره تلوث القرية بمياه الصرف الصحي".
لا تملك بلدية رفح تاريخًا محددًا لإنشاء القرية أو عدد سكانها ومساحتها، وتكتفي بالقول إنها "مخيم للاجئين تمّ إنشاؤه مع نكبة اللاجئين وتشرّدهم"، وإنها تتبع وكالة الأونروا.
يُخلي رئيس البلدية أحمد الصوفي مسؤوليتهم عن القرية، ويقول لـ "معدّا التحقيق": "ليس لنا أي علاقة بها، القرية تتبع للوكالة، ونحن ساهمنا بتوصيل الكهرباء وتركيب أعمدة إنارة".
بلدية رفح: الأفضل نقل القرية كاملة؛ لأنها معرّضة للاندثار
وبسؤاله عن المشاريع الاستراتيجية، أجاب الصوفي: "نساعد في جلب المشاريع للقرية، وإذا توفّر مشروع مخصص لها سيجري تنفيذه".
ووفق الصوفي، فإنه منذ إنشاء القرية عام 1965م، لم تنفّذ أي مشاريع داخلها باستثناء مشروعين، أحدهما إنارة الشوارع، والآخر إنشاء سواتر اسمنتية على الشاطئ لمنع انجرافها.
يشير الصوفي إلى أن المياه والصرف الصحي داخل المحافظة تتبع إداريًا وفنّيًا لمصلحة مياه الساحل في رفح منذ عام 2008م.
يوجد في القرية نحو 200 منزل فلسطيني، لا يعتبروا وفق مصلحة مياه الساحل، ثقلًا سكانيًا يمكن أن يشجّع الممولين أو ينظروا إليها كأولوية.
ويطرح هذا الأمر تساؤلًا حول أسباب غياب الحكومة عن القرية كل هذه السنوات، والمبادرة إلى تمويل مشاريعها ذاتيًا، طالما أنها لا تشكّل ثقلًا سكانيًا.
يُرجع مدير مصلحة مياه الساحل في محافظة رفح محمد العبويني، في حديث لـ "معدّا التحقيق"، أسباب مشكلة الصرف الصحي إلى "الميول الطبيعية" التي لا تخدم القرية؛ بسبب انخفاضها عن منطقة المعالجة المركزية.
ويقول: "تقبع القرية في منطقة منخفضة عن منطقة محطة المعالجة المركزية في رفح، وكي نخدمها بشأن شبكة الصرف الصحي، فلابد من إنشاء مضخة للصرف، لتجميعها ثم ضخها إلى محطة المعالجة".
ويضيف العبويني: "هذا الأمر هو الذي أخّر توصيل القرية بمنطقة المعالجة المركزية للصرف الصحي؛ لأن الميول الطبيعية لا تخدم القرية لانخفاضها عن مستوى أحواض معالجة الصرف الصحي".
يشير العبويني إلى أن وزير سلطة المياه م. مازن غنيم زار القرية قبل نحو شهر تقريبًا مع وفد مرافق له، واطّلع على معاناة سكّانها، وأنهم زوّدوه بالتصاميم والتفاصيل الفنّية لمشروع بنية تحتية بالقرية، قائلًا: "الوزير وعد بمساعدة أهالي القرية.. نأمل أن يكون هناك استجابة".
يلفت العبويني إلى أن المشاريع التي تخص المناطق المهمشة في قطاع غزة، ومنها القرية السويدية، جاهزة منذ 5-7 سنوات، "وأجريت عليها دراسات استشارية، وأرسلت للمولين، لكننا لسنا من نوجّه الممول".
وبعد تتبّع الجهة المسؤولة عن توجيه المشاريع ودعم تمويلها أو تقديمها في الأولويات، طرق "معدّا التحقيق"، أبواب وزارة الحكم المحلي للبحث في أرشيفها حول أي مشاريع تخصّ القرية السويدية.
لم ينكر مدير دائرة المشاريع في وزارة الحكم المحلي رامي المصري، دور وزارته في توجيه المشاريع الاستراتيجية، لكنه قال: "ليس دورًا كاملًا".
الحكم المحلي: ليس لدينا مشاريع تخصّ القرية
يؤكد المصري، في حديث مع "معدّا التحقيق"، بأنه لم يمرّ على دائرة المشاريع بوزارة الحكم المحلي، أي مشروع يخص البنية التحتية في القرية السويدية.
كما يكشف عن أنه "لم تصلهم أي مقترحات بشأن ذلك، لا من البلدية أو وكالة الأونروا".
لم تجب "إدارة وكالة الأونروا" على مراسلة وجّهها "معدّا التحقيق" إليها بشأن القرية، كما لم يتلقيا أي استجابة على المراسلات الهاتفية، على مدار مدّة إعداد التحقيق.
معرّضة للاندثار
تخلو القرية، وفق معاينة "معدّا التحقيق"، من أي آبار امتصاصية مصممة بطريقة إنشائية سليمة.
كما لا تساهم أي جهة حكومية أو غير حكومية، في تقديم أي خدمة مجانية لتفريغ هذه الآبار، عبر شفط مياه الصرف الصحي، كحلول علاجية مؤقتة إلى حين توفّر التمويل أو قيام الحكومة بدورها.
وحول ذلك، يقول مدير مصلحة مياه الساحل: "لا نستطيع ملاحقة هذا الأمر.. ليس لدينا الإمكانات"، مستدركًا: "كل ما يمكن أن نفعله هو "تسليك المناهل، وإجراء صيانة للشبكات".
مياه الساحل: القرية منخفضة عن مستوى أحواض معالجة الصرف الصحي
ويشير العبويني إلى أنه "لا توجد بلدية في قطاع غزة تقدّم خدمة شفط الآبار، وإذا فعلته أحدها، فإنها تكون برسوم وليس مجانًا".
في الأثناء، اعترف رئيس بلدية رفح أحمد الصوفي بالوضع الكارثي للقرية، وقال: "لو توفر مشروع لنقل القرية كاملة، يكن ذلك أفضل لسكانها؛ لأنها معرّضة للاندثار".
وبسؤاله: لماذا لم تتدخل البلدية إذن؟، أجاب الصوفي: "الممول لا يعمل في مناطق اللاجئين التابعة للأونروا، إلا في احتياجات مُلحّة جدًا.. الأولوية للأماكن المكتظة بالسكان".
يتضح أن مصير القرية السويدية برفح مرتبط بتوفّر تمويل خارجي، ويعني ذلك أن نحو 2000 مواطن فلسطيني مكرهين على العيش وسط مياه الصرف الصحي، والتعايش مع المرض.
كما يتضح وجود تقصير حكومي في توجيه التمويل نحو المشاريع الاستراتيجية التي تخدم القرية، أو القيام بدورها في تشجيع الممولين وإقناعهم بالحاجة الماسّة لذلك من أجل انتشالها من وحل الأمراض.
ولم تكن "حجة توفّر التمويل" مقنعة لدى أهالي القرية في ظل أن 18 حكومة فلسطينية تعاقبت عليهم منذ عام 1996م، وهذا فتح الباب واسعًا للسؤال: "كيف لا تستطيع الحكومة تنفيذ مشروع لنحو 200 عائلة؟ وهل بغياب الممول يتوقف العمل؟".
تكشف أزمة القرية السويدية عن حجم الإهمال والتقصير الذي تتعرض له المناطق المهمشة في قطاع غزة، وعدم قدرة بعض الجهات الحكومية على إقناع جهات التمويل بمدى الحاجة أو المآسي المترتبة على تأخر بعض المشاريع الحيوية، الذي يصل، في حالة القرية السويدية، إلى مستوى شبهات فساد في استبعادها.
تعتبر القرية السويدية من أكثر المناطق المهمشة في غزة عرض للخطر أو الاندثار، فهي حاليًا محاصرة بين مياه المجاري ومياه البحر والإهمال الحكومي.