"ربِ اختر لي ولا تخيرني فإن الخيرة فيما اخترت لي"، دعاء كثيراً ما كنت أردده في حياتي قبل الإعاقة، كنت أمر بالكثير من الصراعات النفسية والظروف الصعبة حتى جاء ذلك اليوم".
خمس ساعات تكفلت بتغيير حياة غدير الهور، حيث التهاب فايروسي حاد أصاب نخاعها الشوكي، وشل جسدها بالكامل، لكنه بعث فيها حياة جديدة، وإرادة من حديد فاقت كل التوقعات.
ثمار الرضا
فتاة في مقتبل عمرها تبلغ من العمر ثلاثة وعشرين ربيعا، جميلة الطلة، عريضة الابتسامة، عيناها تشعان أملا، وروحها تملؤها الحيوية والنشاط.
منذ بداية حديثها مع "الرسالة" بدت وكأنها طير يحلق في السماء، نفضت عن نفسها يأس الإعاقة لتصنع بالأمل واليقين حياة.
أما أمها التي كانت تراقبها طيلة الحديث لم تغفل عنها لحظة؛ تحتضنها بنظراتها وكأنها طفل رضيع.
كانت الأم فخورة بابنتها القوية التي استطاعت بعون الله تخفيف جزع من حولها وبث السكينة والطمأنينة في قلوبهم بعد أن انفطرت حزنا على حالها.
قالت غدير: "منتصف مارس عام 2019 أصابني مرض غريب أفقدني الحركة، والإحساس في فترة وجيزة لا تتعدى بضع ساعات".
تضيف: "كان وضعي أقرب إلى الموت؛ فقد هيأ الأطباء عائلتي لخبر وفاتي في أي لحظة"، وتتابع: "الجميع كان في حالة ذهول وبكاء شديد، والغريب أنني رغم خطورة وضعي لم أشعر آنذاك إلا بوافر الصحة والعافية".
وقف الأطباء في غزة عاجزين أمام حالة غدير، فحولوها إلى المستشفى الأهلي في الخليل؛ بعد ٦ أيام من الإصابة.
وصلت غدير إلى المشفى بابتسامة أثارت استغراب الجميع هناك؛ مما دفع الدكتور كامل غرايبة الذي تابع حالتها بعد ذلك لسؤالها "هل أنت مدركة لخطورة وضعك الصحي؟".
الثقة التي أبدتها الهور جعلت طبيبها يصارحها بطبيعة حالتها، ويخبرها عن كل الاحتمالات التي يمكن أن تحدث لها.
تحدثت غدير عن الطبيب غرايبة "لم يكن مجرد طبيب لكنه كان أخا وصديقا وداعما وسندا لي هو وعائلته".
تقول:" كان يشاركني في تفاصيل حالتي كطبيبة، وينصحني بفهم كل ما يتعلق بمرضي، فأنا الآن أستطيع شرح حالتي بكل حيثياتها ومصطلحاتها كأي طبيب مختص".
من أجمل أيام حياتي
لم تنس غدير ملائكة الرحمة من ممرضين وممرضات وأطباء مناوبين، فقد أحاطوها بالحب والاهتمام والرعاية وكانوا مثل عائلة ثانية لها.
بابتسامتها المعهودة ذكرت كيف كان الأطباء يرونها مثالا للصبر والقوة، وأنه يليق بها أن تكون مرشدة نفسية، مما حفزها على تغيير تخصصها الجامعي من الشريعة إلى علم النفس.
تقول غدير: "رفض الدكتور كامل مغادرتي إلى غزة بعد انتهاء تحويلتي، قبل تلقي العلاج الطبيعي فعمل جاهدا لاستصدار تحويلة جديدة لمستشفى بيت لحم للتأهيل".
"لم أشعر يوما أنني في مستشفى بل في مكان ترفيهي مع أصدقائي" هذا ما قالته غدير عند حديثها عن خمسة شهور قضتها في مشفى بيت لحم، حيث كل أنواع التدريبات، وأصعبها كان يجريها لها الفريق المختص هناك على مدار ٦ ساعات يوميا تحملتها بقوة إرادتها.
وما زالت غدير تتحدث عن رحلتها مع العلاج دون ملل حتى نظرت إليها أمها وقالت: على سبيل الدعابة "ما تعبتي من الحكي" فجاء ردها على الفور" كانت من أجمل أيام حياتي".
أحب إعاقتي
غدير تلك الفتاة التي تدهش كل من يراها بحجم الأمل والسلام النفسي اللذين يقطنان روحها خاصة وأنها تقول: "أحب إعاقتي جدا، صنعت غدير جديدة مؤثرة في المجتمع، زادت شغفي في الحياة، غيرت أحلامي، أصبحت أنشط اجتماعيا، وعلاقاتي أكثر، وازددت تفوقا حيث حصلت على امتياز على مدار فصلين بعد الإعاقة".
أمنيات وعقبات
" أنا متصالحة جدا مع وضعي، ويجب علينا نحن ذوي الإعاقة إدراك حالتنا جيدا؛ لنستطيع التعايش معها" هذا ما تعتقده غدير، فهي ترى أن خوف المعاق من نظرة المجتمع مشكلة كبيرة.
غدير لم تفكر أبدا في تحليل نظرة الأشخاص إليها فهي تؤمن أن الثقة هي من أوصلتها لهذه المرحلة.
ومما لا شك فيه أن ذوي الإعاقة فئة لا يجب الاستهانة بها؛ فهم أصحاب كفاءات وكثير منهم متميزون في مجالاتهم حيث بلغ عددهم في فلسطين حسب آخر إحصائية لجهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني (92,710) منهم (44,570) في الضفة و (48,140) في غزة.
وتعاني فئة المعاقين وفق غدير من مشاكل كثيرة من أهمها صعوبة توفر الخدمات، والأدوات المساعدة، وغياب فرص العمل، وضعف تقديم خدمات الرعاية الصحية، وكذلك عدم توفر المواءمة في الأماكن والمرافق العامة.
وباتت غدير تعي مشاكل الفئة التي أصبحت واحدة من أفرادها جيدا، فقد خصصت جزءا كبيرا من أحلامها لهم تقول غدير بشغف: "أكبر طموحي هو تأسيس مؤسسة خاصة بذوي الإعاقة لدعمهم نفسيا، وزيادة وعيهم بحقوقهم وقدرتهم على المطالبة بها، وتوعية الأصحاء بكيفية التعامل معهم ومحاولة حل مشاكلهم".
كلمات مضيئة
ترى غدير أن السلام النفسي عدوى تأمل أن تنقلها لكل من حولها، لذلك طلبت من الأصحاء أن يعرفوا أكثر عن ذوي الإعاقة، وأن يكونوا لطفاء معهم قدر المستطاع، ولا يشعروهم بعجزهم.
ودعت الجهات المختصة لوضع قضية ذوي الاحتياجات الخاصة على سلم أولوياتهم، وتطبيق القوانين الخاصة بهم.
أما رسالتها الأساس فوجهتها لذوي الإعاقة حيث قالت: "توكلوا على رب الأرباب، تجاهلوا أفكاركم المحبطة، صادقوا الطيبين الناجحين، ازرعوا في قلوبكم الرضا واليقين، كافئوا أنفسكم وأسمعوها الكلمات الطيبة ولا تنتظروها من أحد، ساعدوا الناس، وقدموا الخير فلستم وحدكم من ينتظر المساعدة، طالبوا بحقوقكم بطريقة راقية وأخيرا كونوا أنتم التغيير الذي تتمنوه للعالم".
وهكذا فقد كان الإيمان بالله والرضا بقضائه بمثابة الوحي الذي تنزل على قلب غدير ليعلمها كيف تعيش الحياة بكل معطياتها.