في كل مرة يزور فيها محمود أبو قاسم وطنه فلسطين قادما من غربته، يخصص وأصدقاؤه يوما للاستجمام، فيقصد واد القِلط المكان المفضل له دوما، حيث "نبع الفوار" المعلم السياحي الأبهى والأكثر غرابة عندما تتجلى الطبيعة فيه، فتولد عشقا لدى الزوار وولها لا يطفئ لهيبه إلا العودة مرات ومرات.
منطلقا من أدنى جبال القدس ومارا بوديانها المزهوة بصخور تعلو جانبيها وكأنها حارس شخصي، يجري نبع الفوار ليصب في واد القِلط بين مدينتي القدس وأريحا (وسط الضفة الغربية)، حيث يلتقي بينابيع أخرى تندفع جميعا نحو البحر الميت.
يدرك أبو قاسم (40 عاما) أن رحلته لن تطول، وأن الساعات المحددة من 8 صباحا إلى 4 عصرا، كما بينت تعليمات خطت فوق لافتة إرشادية، يجب استغلالها كاملة قبل العودة أدراجه إلى منزله بشمال الضفة الغربية، مدركا أن أي تجاوز للوقت سيعرضه للمساءلة وربما الاحتجاز من سلطات الاحتلال التي تسيطر على المكان.
فوران بفارق زمني
ولساعات يظل أبو قاسم في منطقة نبع الفوار يراقب حالة النبع الغريبة والوحيدة بالضفة الغربية، إذ تفور المياه تارة وتختفي أخرى بفارق زمني تضبطه كمياتها الواردة للنبع، ليعود محملا بعشرات الصور ومقاطع الفيديو التي تظل رفقته يشاهدها ويطلع عليها المغتربون أمثاله.
ثمة أشياء أخرى يفعلها أبو قاسم في نبع الفوار غير التوثيق، وفق ما أوضح للجزيرة نت التي واكبت في جولة لها هناك تلك التفاصيل الدقيقة، ورأته وهو يغوص مبحرا بأعماق بئر النبع ويستمتع بمياهها العذبة والباردة، هاربا من أشعة الشمس وأجواء الصيف الحارة، فغالبا ما تتزامن زيارته مع هذا الموسم.
ومن ثم يسير لمسافات ولبضع ساعات في مجرى النهر الذي تشكله مياه النبع بينما تداعب الأسماك قدميه وتظله أشجار القصب الخضراء التي يخيم ينعانها على حر المنطقة شبه الصحراوية وتكسو حدة صخورها الصلبة.
ويفيض نبع عين الفوار مرة كل نصف ساعة أو أكثر أو أقل، وذلك حسب كمية المياه المنبعثة منه، والموسم شتاء أو صيفا، ويحتاج حوضه الذي يتسع لأكثر من 20 مترا مكعبا من الماء أو يزيد 10 دقائق ليفرغ، ومثلها أو أكثر بقليل ليمتلئ.
وهذه الظاهرة في نبع الفوار (ظهور المياه واختفاؤها) تسمى بالينابيع "السيفونية"، وتفسر علميا بأنها ناتجة عن عملية توازن ما بين ضغط الهواء داخل المجاري الصخرية وبين ضغط الماء في عملية تشبه عمل "سيفون المرحاض"، كما يقول الخبير في جيولوجيا المياه (الهيدرولوجي) صايل وشاحي.
الينابيع السيفونية
وتسمى هذه الينابيع، كما يقول وشاحي للجزيرة نت، بالينابيع "الإيقاعية" لكونها تُحدث إيقاعا موسيقيا بصعودها ونزولها عبر كهوف ومجار تشكلت بفعل الأمطار داخل الصخور الجيرية، فتمتلئ بالمياه، ثم يضغط الماء على الهواء ليخرج.
وعندما يخف مستوى الماء يصبح ضغط الهواء أقوى فيقل ضغط الماء وتضعف ولا تخرج وتنتظر حتى يمتلئ الكهف ثانية بالماء الذي يضغط على الهواء ليخرج مجددا، وهكذا، ونتيجة لذلك تكون المياه مختلطة بفقاعات الهواء "ولهذا تسمى الفوار".
وتعد هذه الينابيع وجهة سياحية، فهذه الأماكن تشكل عامل جذب سياحي للناس من كل مكان ليشاهدوا ظاهرتها الغريبة وإبداع صنع الله.
لكن خطرها يبقى منوطا بمدى معرفة الزوار بلحظات فورانها خاصة من يغوصون في أعماقها، وهو ما جعل سلطة الاحتلال تضع شباكا حديديا بوسط بئر النبع تجنبا للغرق بعد سحب المياه أحد الوزار إلى الأسفل كما قيل لنا، كما يُمنع الغطس المباشر كي لا يتصادف ذلك مع لحظة تفريغ الماء فيرتطم السابح بالأرض.
ولساعات سرنا في مجرى النهر، كما يفعل زوَّار كثيرون، ونحن نرقب معالم المكان الذي بددت جماله مستوطنات 3 علت جباله ومسارات المستوطنين السياحية، وهو ما يرفضه الفلسطينيون ويطلقون عند مسافة قريبة منه مساراتهم الخاصة التي تعرّف بأرضهم ووطنهم.
واستخدم السكان القدماء قرب مدينة أريحا مياه الفوار لري أشجار الموز وفي زراعتهم الموسمية، وهو ما يحاول الفلسطينيون فعله الآن والاستفادة بشكل أكبر من المياه منزليا أو زراعيا.
ومن حيث تنطلق مياه نبع الفوار تلتقي بعد عدة كيلومترات بواد القِلط البالغ طوله نحو 40 كيلومترا، وتكمل المسير لتلتقي بينابيع أخرى وتصل لمخيم عقبة جبر في أريحا.
للسقي وأغراض أخرى
ويدعو وشاحي لاستغلال مياه نبع الفوار والينابيع المحيطة به، والمقدرة بأكثر من 3 ملايين متر مكعب سنويا، من خلال بناء سدود أو خزانات تجمعية لتغذية المياه الجوفية بزيادة مخزونها والتخفيف من ملوحتها بمنطقة أريحا التي تواجه كبيئة زراعية وصناعية للفلسطينيين نقصا كبيرا في المياه.
وفي موقع "نبع الفوار" هالنا منظر بناء بئر النبع وغيره، فسألنا المقدسي روبين أبو شمسية الباحث التاريخي وقائد مسارات سياحية، ليرد بأن العثمانيين استغلوا المكان (نبع الفوار) كمخفر شرطي "للدرك الزراعي" لحماية عين المياه وتأمين استخداماتها للمزارعين آنذاك.
وسمي "نبع الفوار" أيام الحكم العثماني، وفق ما ذكرته بعض المصادر، "الفرات"، ويعني "الماء العذب"، يقول أبو شمسية، ثم آل المكان بعد الفترة العثمانية وقفا لآل "غضية"، وهم أكبر أفخاذ عائلة الحسيني المقدسية، الذين ملكوا عند مسافة قريبة من النبع "مطاحن الحسيني" واستخدموا ماءه لطحن الحبوب.
كما استفاد الرومان في عهد الملك هيرودس من نبع الفوار، حسب أبو شمسية، حين أنشؤوا ممرات وقنوات مائية "فوقية" (تبنى فوق جسور وقناطر) لإيصال المياه لقصر بمدينة أريحا.
غادرنا "نبع الفوار" وأملنا في العودة كبير، رغم إجراءات الاحتلال الذي يسيطر على مئات المواقع السياحية الفلسطينية وينابيع المياه، والذي يقيد حركة الزوار الفلسطينيين المطلوب منهم التواصل مع المكان وزيارته.
المصدر : الجزيرة