في ذكرى صفقة وفاء الأحرار، يعود بنا التاريخ إلى الخامس والعشرين من يونيو 2006 حينما زحف محمد فروانة وحامد الرنتيسي مع زملاء لهم عبر نفق ضيق، تحت الأرض، بسلاح قديم، وعتاد أقدم، وبقدرات بدائية في حفر الأنفاق، ورغم كل ما تبدو عليه الصورة من المستحيل، إلا أنهما استطاعا، وقد فعلاها.
محمد وحامد يرقدان الآن في مكان مجهول، في مقابر الأرقام التي يحاول الاحتلال أن يستغلها لعذاب آخر، فلا دولة على هذه الأرض تصادر جثامين الموتى سوى "إسرائيل"، ظنا منها أنها تذل أهالي الأسرى، وفي ذلك يظهر مدى الحقد الإسرائيلي وإرهاب الدولة المحتلة.
جثتان وأسير إسرائيلي، سحبه اثنان من أربعة مقاومين من خلف الدبابة، ونزلوا به إلى النفق، وبقي محمد فروانة وصديقه حامد الرنتيسي، شهيدان صودر جثماناهما منذ تلك اللحظة، يحملان اسما معلوما لدينا، مجهولا لدى العالم، فيما لم تحصل عائلاتهم على أي معلومة عنهما حتى اللحظة.
حاولنا الاتصال بأميّ الشهيدين، لنرى هل رأيت أعينهما صور البطلين وهما يزحفان عبر النفق خلال حلقة برنامج ما خفي أعظم الذي بثته قناة الجزيرة منتصف العام الحالي وفوجئنا بوفاة أم حامد، التي كانت تردد قبل رحيلها حلم احتضان جثمان ابنها ودفنه بما يليق بالأبطال أمثاله، لكنها لطالما باركت ما فعله ابنها، منذ البداية.
أم محمد فروانة تحدثت معنا عن فخرها غير المنتهي بابنها وصديقه حامد قائلة: "كلما رأيت أسيرا محررا وقد تزوج وأصبح لديه أبناء، أشعر أن ابني دفع حياته ليعطي الحياة لكل هؤلاء، والفرصة ليبنوا بيوتا وعائلات ويخرج من نسلهم ألف محمد، أشعر أن ابني محمد قد عاد إلى الحياة".
ولد محمد فروانة في مدينة خانيونس عام 1983م، وهو الثاني بين إخوته وتلقّى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس المدينة ودرس التربية في جامعة الأقصى”.
تقول أمه إنه كان أهدأ أبنائها وبأنها واثقة أن هناك يوم سيأتي ليتحرر فيه جثمانه، وتعرف مدى القهر الذي سببه ابنها للاحتلال، وكيف قلبت العملية البطولية قوانين الكون وغيرت من مسار القضية.
ولفتت إلى أن العائلة تواصلت مع كل المؤسسات الحقوقية، وحملات إعادة الجثامين ولكن الاحتلال يرفض حتى ذكر جثمان ابني، قائلة: "مجرد رقم قبره أو جثمانه رفضوا إعطاءه لي، لقد أوجعهم ما فعله محمد كثيرا، كثيرا".
ثم تأملت الذكريات وهي تدور في عقلها قائلة: "ابني الذي لم يتجاوز الواحد والعشرين هو وصديقه حامد قلبا دولة عظمى كانت تعتقد أنها الأقوى، لقد كان هادئا كتوما، لم يكن يوحي لمن حوله بطبيعة عمله الجهادي أو مخططاته.. وبالرغم من ذلك كنت أتوقع أنه سيستشهد، كم أنا فخورة به".
أما حامد الرنتيسي فقد ولد في رفح، وتحديدا في حي البرازيل، لأسرة فلسطينية مجاهدة هُجرت من قريتها يبنا المحتلة على يد الصهاينة عام 48م، ونشأ في أحضان المخيم وعاش على حكايات البطولة ويبدو أن ما روته أمه على مسامعه كان خلفيته ودليله للسير في طريقه.
جثمانان مجهولان، يرقدان الآن في قبر مجهول العنوان، ربما يمر من جانبهما كثير من الأرقام وتحفر كثير من القبور، لكن هناك صوت قادم من غزة، يقول: "هناك يرقد محمد فروانة وحامد الرنتيسي، وحينما تتحرر الأرض، ستتحرر الجثامين، وستزف كما يليق بالشهداء أن يزفوا، وسيكتب اسم أبطالها فوق شواهد القبور".