تصوير لصراع الذات بين قرنين من الزمن
قراءة/ رشا فرحات
واحة الغروب للكاتب المصري بهاء طاهر، هي عبارة عن مجموعة من الأحداث التاريخية القديمة التي يقتبس منها الكاتب روايته الأكثر من رائعة، بل هي رائعة الكاتب بهاء طاهر بلا منافس، ولقد لاقت هذه الرواية استحساناً كبيراً ونقداً ايجابياً أكبر، وتعود أحداثها إلى نهايات القرن التاسع عشر والاحتلال البريطاني لمصر، وثورة احمد عرابي ومدى تأثر الشباب بها في ذلك الوقت.
وتحكي الرواية قصة محمود عبد الظاهر ضابط البوليس المصري الذي ترسله الحكومة البريطانية إلى العمل في واحة "سيوة" الصحراوية البعيدة، والتي يعتبر الوصول إليها مستحيلاً في ذلك الوقت، لأنها تشك في تعامله وتعاطفه مع الأفكار الثورية ، ولأن أهل الواحة العنيفين والمتعصبين لأفكارهم، يظهرون رغبة بتخليهم عن دفع الضرائب للحكومة، محمود الذي كانت حياته منشغلة في الملاهي الليلة والرذائل يوافق على مضض للرحيل وتنفيذ مأموريته ويصطحب معه زوجته الايرلندية المهتمة في دراسة الآثار والتاريخ، والتي كانت تحلم باكتشاف مقبرة الإسكندر الأكبر التي قرأت ودرست احتمال وجودها في واحة سيوة، وتناقش الرواية مجتمعين تعرضا للاحتلال البريطاني وهما ايرلندا ومصر وهو سر الاتفاق بين محمود بطل الرواية وزوجته الايرلندية.
يذهب محمود لقضاء مأمورية ثقيلة على قلبه، وهو ما يزال في فوضويته التي يصورها الكاتب ثم ما يلبث أن يصرخ بداخله الضمير الوطني فيتحول إلى رجل وطني، ولكنه يبقى حائرا متضاربا بين وطنيته، ومصالحه في العمل مع الاحتلال وتنفيذ أوامره، ويظهر فشله في تلك المأمورية، حينما يظهر للسلطات تعاطفه مع أهل سيوة في كمية الضرائب المدفوعة.
وتأتي الرواية عبارة عن عدة فصول يحكي كل فصل بطريقة الأنا فتارة يحكي بطل الرواية محمود عن تصوره للوضع والأحداث في الواحة، وفي الفصل الذي يليه تحكي كاثرين زوجته الايرلندية عن تصورها من ووجهة نظرها، ثم يحكي احد أبطال الرواية فصلا أخر، وحتى الإسكندر ( الشخصية الخرافية) يكون له فصلا خاص يحكي به عن ذاته. ويعتبر هذا النوع من السرد جديدا على الرواية المصرية، حيث يقسم الكاتب روايته بين عدد من الأبطال.
ولعل أهم ما يتصف به أبطال الرواية هو انقسامهم بين مبدأين، فهم يفعلون خلاف ما يناجون به أنفسهم، وهذا ما ملأ الرواية بالشجون والأحاسيس المؤثرة، بل والأكثر جمالاً في صفحاتها أنك تدخل من خلال هذا الكتاب إلى أغوار أعماق الرجل، وأعماق الأنثى في تصورهم لذات الأحداث وتعاملهم مع المشاكل العائلية الموروثة في الواحة، ومحاولة كل منهما حلها بطريقته .
طرح الكاتب هموم الوطن ممزوجة بتجربة العلاقة بين الشرق والغرب على المستويين الإنساني والحضاري ، كما يوضح المؤلف أن "الرواية كتبت عن لحظة هزيمة العرابيين وعن اللحظة التي نعيشها اليوم من هزائم وطنية عامة، وقد تأثر بطل الرواية محمود جدا من خلال تعايشه مع الاستعمار وتأثيره على كافة مجالات حياته، وتأثر أكثر في حياته في واحة سيوة وعدم ثقة سكانها فيه ومحاولتهم الدائمة للتخلص منه بأي شكل، وذلك لأنه قد انتدب من اجل جمع الضرائب للحكومة، والتي كانت مرتفعة القيمة ولا يقدر احد الواحة البسطاء على سدادها، وقد اثر عليه أكثر ارتباطهم بشكل خرافي في المعبد الذي يعتقد أن الاسكندر الأكبر قد دفن فيه، وكذلك اعتقاد زوجته الباحثة عن دليل بذلك.
وتبقى تفاصيل الرواية تسحبك من تضارب إلى أخر حتى تنتهي نهاية عجيبة غير متوقعة، حينما يذهب محمود إلى المعبد ويفجره ثم ينتهي إلى جانبه ميتا، وربما كانت هذه النهاية يائسة جدا ولا داعي لها من وجهة نظر الكثيرين، وربما كانت مخطئة حقاً، فالانتحار ليس حلاً لمشكلة، وتفجير المعبد، هو هزيمة تاريخية نكراء، كما وأن المعبد لم يكن هو أساس المشكلة في روايته، أو لم يصور الكاتب ذلك بوضوح، ولم يكن في حياة بطل الرواية ما يستدعي وصوله إلى هذه المرحلة، ولكنها حدثت في النهاية ربما لاعتماد الكاتب على حقائق تاريخية فعليه، فمقبرة الاسكندر يشتبه في وجودها في تلك المنطقة، وقد حاولت باحثة يونانية تدعى ( لينا سوفاتزي)البحث والتنقيب عنها بمساعدة السلطات المصرية، وبعد توصلها إلى بعض الآثار توقفت لخلافها مع مصلحة الآثار المصرية، ولعل الكاتب اقتبس شخصية " كاثرين" بطلة روايته من تلك الحقيقة، كما أنه ذكر في هوامش روايته أن بطل الرواية "محمود عزمي" كان فعلاً ضابطاً حقيقياً في واحة سيوة، وكان له يد حقيقية في تفجير المعبد، ويبدو انه له علاقة قوية بالهام الكاتب بأحداث الرواية.
الكاتب بهاء طاهر كاتب مصري معاصر. حصل على ليسانس التاريخ من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1956، ثم حصل على دبلومي دراسات عليا من نفس الجامعة في التاريخ الحديث والإعلام. عمل مخرجا للدراما ومذيعا في البرنامج الثاني (الثقافي) حتى عام 1975. نشر أول مجموعة قصصية تحت عنوان الخطوبة عام 1972. سافر إلى جنيف ليعمل في الأمم المتحدة منذ عام 1981 وحتى مايو 1995.
يكتب بهاء طاهر القصة القصيرة والرواية. من أهم رواياته شرق النخيل وقالت ضحى و خالتي صفية والدير وأخيرا الحب في المنفى. من أهم مجموعاته القصصية: "بالأمس حلمت بك" و"أنا الملك جئت". لبهاء طاهر كذلك ترجمات مهمة لعل أهمها ترجمته لرواية" الخميائي" الشهيرة.
بقي أن نقول أن رواية واحة الغروب إحدى الروايات المهمة الحاصلة على الجائزة العالمية للرواية العربية، وعلى الرغم من اختلافي مع الكثير من سطورها إلا أنها تستحق ذلك بجدارة.