قائمة الموقع

مقال: عبد الحليم قنديل يكتب: أنا دمي فلسطيني

2021-11-20T11:17:00+02:00
عبد الحليم قنديل
عبد الحليم قنديل

كان التصرف عفويا غريزيا تماما، وناطقا صادقا بفطرة المصريين الوطنية، وواصلا عابرا إلى وجدان أجيال شابة، عمرها أقل من نصف عمر ما تسمى «معاهدة السلام» مع إسرائيل، كان عدد من الطلاب المصريين على متن باخرة سياحية عند شواطئ «دهب» مدينة الرمال الذهبية، الواقعة في نقطة قريبة من حدود مصر التاريخية مع فلسطين المحتلة، وما إن علم الطلاب بوجود حفنة سياح إسرائيليين على الباخرة، حتى كان الرد التلقائي، الذي جعل الإسرائيليين يفرون بجلودهم، هلعا ورعبا من قصف غنائي مفاجئ، صار واحدا من أيقونات الوطنية المصرية، والتحامها العضوي بالهم الفلسطيني، وفي صورة شريط «فيديو» حماسي للطلاب المصريين، وهم يغنون «أنا دمي فلسطيني».

بدت الصرخة الموسيقية بإيقاعها الفلسطيني، كأنها تعويذة سحرية تفتك بأعصاب الإسرائيليين، والأغنية كما هو معروف للمطرب الفلسطيني الشاب محمد عساف، الذي زار القاهرة أخيرا، وبدعوة رسمية من وزارة الثقافة المصرية، وشارك في الدورة الثلاثين لمهرجان «الموسيقى العربية» وصدح بأغنية «أنا دمي فلسطيني» وغيرها، وكانت حفلته كاملة العدد وتزيد، ولم يبق فيها موضع لقدم، تماما كحفلات أشهر المطربين والمطربات العرب، الذين تباروا بالأداء في أهم محفل غنائي عربي جامع.

وشعر عساف، الذي اشتهر بأغانيه ومواويله من نوع «على الكوفية» و»جينالك يا فلسطين» وغيرها، وهو يغني مع فرقته على مسرح «النافورة» في دار الأوبرا القاهرية، وكأنه بين أهله في «خان يونس» الفلسطينية، ومن دون أن يفاجأ بحماس أجيال جديدة من المصريين، ربما لم يقرأ أغلبهم كتابا واحدا عن قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، ولم يشهدوا جميعا، لاهم ولا جيل آبائهم الأقربين حربا واحدة من حروب مصر مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي.

 فقد دارت آخر حرب شاملة قبل ثمانية وأربعين عاما، ووصفها الرئيس السادات بعدها بأنها آخر الحروب، وأغلب ما يسمعونه أو يرونه في وسائل الإعلام العامة، أن مصر عقدت مع إسرائيل «معاهدة سلام» قبل نحو أربع وأربعين سنة، وأن المسؤولين المصريين والإسرائيليين يتبادلون الزيارات واللقاءات والمجاملات، لكن ذلك كله، لم يفتح قلوبهم للإسرائيليين، ولا نزع عروة المحبة الوثقى لكفاح الشعب الفلسطيني وقضيته، رغم أخطاء وخطايا وجرائم سابقة لفصائل فلسطينية في حق المصريين، بالغت دوائر إعلام في تضخيمها وتعميمها (قبل التفاهم الأمني الملموس بين حركة حماس والسلطات المصرية المعنية) وأرادت أن تقيم بها «حاجزا نفسيا» بين المصريين والفلسطينيين، ربما على أمل إقامة جدار كراهية للفلسطينيين، قد يفيد بالمقابل، في فتح ثغرة في حائط الصد المصري الشعبي للإسرائيليين، الذين لم يفلحوا أبدا في مد جسور تطبيع شعبي مع المصريين، فلا يزال التطبيع عند أغلب المصريين عارا وخيانة، وجريمة مخلة بالشرف الشخصي، تسقط اعتبار مقترفها أيا ما كان اسمه ورسمه.

وربما لا تكون من حاجة لتذكر أمثلة قريبة وبعيدة، من الكاتب المسرحي الراحل علي سالم، إلى النائب السابق توفيق عكاشة، إلى الممثل والمغني الراقص محمد رمضان، وكلهم مع غيرهم، راحوا ضحية ضبطهم في حالة تلبس بارتكاب الجرم المشهود، بالدعوة إلى تطبيع شعبي، أو التقاط الصور مع إسرائيليين، وكان الجزاء احتقارا شعبيا غالبا، وردود فعل وصلت إلى التعرض البدني، على طريقة ضرب توفيق عكاشة بالحذاء في قاعة البرلمان، أو «العلقة الساخنة» التي تلقاها محمد رمضان من شبان مصريين صادفوه في الطريق، رغم كذب رمضان دفاعا عن نفسه، ورغم ادعائه أنه لم يكن يعرف «الهوية الإسرائيلية» لمن ظهر معهم في دبي، بعدها تراجع المطرب المصري الشهير محمد منير عن إقامة حفل كان مقررا في «القدس» المحتلة، فقد ظل الرفض الشعبي المصري التلقائي عنصر ردع جاهز مستنفر دائما، ويجرى توريثه جيلا فجيل، وعلى نحو شبه «جيني» لا يشترط في صاحبه عملا بالسياسة، ولا انتماء ولا اقترابا من حزب أو تيار سياسي بعينه.

 فيكفي أن تكون مصريا لتعادي الإسرائيليين الغزاة، وقد قدم المصريون في الحروب مع الكيان الصهيوني أكثر من مئة ألف شهيد وجريح ومعاق، وتضحيات تفوق تضحيات أي شعب عربي آخر، بمن فيهم الفلسطينيون، ولم ينقطع حبل التضحيات أبدا بعد توقيع ما تسمى «معاهدة السلام» من الشهيد سعد إدريس حلاوة إلى سليمان خاطر وأيمن حسن، وأبطال منظمة «ثورة مصر» الناصرية، وإلى تضحيات المئات فالآلاف من المثقفين والناشطين المصريين، الذين طوردوا وسجنوا لرفضهم التطبيع مع إسرائيل، وحالوا دون مشاركة الإسرائيليين في معرض الكتاب والمعرض الصناعي وغيره، وصنعوا دستورا شعبيا حاكما في النقابات المهنية والعمالية والفلاحية كافة، جعل «التطبيع» من موجبات إسقاط العضوية، وجعل لقاء الإسرائيليين أم الجرائم، رغم أن القانون الرسمي يعتبر أن «إسرائيل» دولة صديقة، ويتبادل معها التمثيل الدبلوماسي، ويعقد اتفاقات «الكويز» و»الغاز» وهو ما يرفضه الرأي العام المصري بغالب أصواته، ولا يقنعه كل ما يقال عن الفوائد الاقتصادية الضخمة، التي تجنيها الدولة المصرية ورجال أعمالها.

نعم، بين المصريين والإسرائيليين مواريث دم «ماتصير ماء» وهو ما صنع معادلة مميزة في مصر، بعد عقد ما تسمى «معاهدة السلام» معادلة يتصرف ويشعر فيها أغلب المصريين، بأن المعاهدة لا تعنيهم، وبأنها من عمل الحكومات الذي لا يلزم الشعوب، فلن تجد شعبا عربيا يعادي الإسرائيليين أكثر من المصريين، ولن تجد إسرائيل عائقا للتطبيع الشعبي أكثر من سواد المصريين العاديين.

فالقصة عند المصريين أكبر من مصير سيناء، وقد عادت سيناء لمصر رسميا مع عقد المعاهدة، ثم عادت فعليا لا صوريا، بعد إنهاء ودوس مناطق خفض ونزع السلاح، وفرض أمر واقع جديد، جرى ترسيمه مؤخرا باتفاق تعديل الملاحق الأمنية للمعاهدة، وبتضحيات دم هائلة من الجيش المصري، في حرب حملت رسميا عنوان «مكافحة الإرهاب» لكنها كانت وتظل في مغزاها الكلي، حربا لتحرير سيناء فعليا، ووصلا لما كان انقطع منذ وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر 1973، التي لم تكن آخر الحروب كما تصور السادات، فوجود إسرائيل في ذاته خطر على الوجود المصري في ذاته، وقضية فلسطين مسألة وطنية مصرية، وهذه عقيدة الشعب المصري كما عقيدة الجيش المصري، رغم تقلبات السياسة وأنظمة الحكم.

وفي مناسبة بدت داخلية تماما، ففي لقاء احتفالي جرى أخيرا في الذكرى العاشرة لإنشاء «بيت العائلة» وهو منبر تأسس عام 2011، بناء على مبادرة مشتركة من الأزهر والكنيسة ضد الاحتقانات الطائفية، وسرعان ما تحول اللقاء عن الشواغل الداخلية المصرية، وبدت كلمات المشايخ والقساوسة المشاركين، كأنها طلقات مصوبة عمدا ضد «الدعوى الإبراهيمية» واتفاقات تطبيعها عربيا، وأعلن شيخ الأزهر رفضه لدعوى «الديانة الإبراهيمية» وعدها دعوى سياسية معادية، تصادر على حق المسلمين، كما المسيحيين في حرية الاعتقاد والإيمان وكسب حرية الأوطان، وهو ما ذهب إليه قادة الكنيسة المصرية أيضا، وبدا الموقف سياسيا مقصودا فوق أصالته الدينية، رغم ما هو معروف من صلات حسنة بين الحكم المصري وبلدان الدعوى والاتفاقات «الإبراهيمية».

ورغم ما هو معروف أيضا، من طبيعة صلات الدولة المصرية الممتدة مع «الأزهر» و»الكنيسة» وكلها سمحت بأن يجري ما جرى، فالدولة المصرية ذات السلوك المركب المعقد متعدد الطبقات، قد لا تمانع في عقد اتفاقات رسمية مع إسرائيل، لكن أجهزتها تعيق عمليا أي تطبيع شعبي مع إسرائيل، على نحو يستجيب جزئيا للشعور الشعبي العام، ويراعي جوانب التحصين الأمني في الوقت ذاته، وقس على ذلك ما جرى بعد حادث اقتحام وإحراق الشباب المصري لمقر السفارة الإسرائيلية الأول على شاطئ النيل بالجيزة، ثم نقل مقر السفارة إلى منزل السفير، والرقابة اللصيقة المفروضة، التي تجعل لقاء سفير العدو بأي مصري عملا باهظ الكلفة، وحتى في مزارات سياحة سيناء، لا يخفت دبيب المراقبة ذاتها، فكل إسرائيلي زائر قد يكون جاسوسا محتملا، وهو ما يفهمه المصريون المعنيون ضمنا، ويطلق مشاعرهم المختزنة بالصدور وقت الحاجة، وعلى طريقة ما فعل الطلاب المصريون، الذين طردوا الإسرائيليين بسحر تعويذة «أنا دمي فلسطيني».

اخبار ذات صلة