بقلم: رشا فرحات
في غرفتها تفاصيل علاقتهما، ألعابهما، قصصهما المسطرة فوق الرفوف، سر مخبأ تحت السرير، بعض من الورق الممزق، ذكريات لعبث طفولي لم ينته، إنها ابنة العاشرة، وهو أخوها الأصغر خالد، الجميل المدلل، ترسم له وجهاً مبتسماً على ورقة ناصعة بيضاء، تلونه بلون السماء، تحاول أن تمسكه القلم، تضحك من خربشاته غير المفهومة، تناوله بسرية قطعة من الحلوى الممنوعة عنهما منذ سنوات.
إنهما مريضان بالسكر، وتعاليم الطبيب تمنع عنهما كل يوم ما يشتهيان، لكنها ما زالت تحب البطاطس المقلية، كما تحب القشدة، وما زالت تكره رائحة الدواء، والطعام المسلوق، لكنها قوية، شجاعة كما تقول أمها، لا تشعر بطعم وخز الأنسولين حينما يدقه والدها في جنبها كل يوم، لكنها تتألم حينما يوخز بها خالد، تمسكه حينما يقترب والدها، هو لا يفهم ما يجب أن يفعله، لا يفهم وجوب أخذه للحقنة، لا يفهم تعليمات الطبيب، ولا لغة الأطباء.
يده منتفخة مجروحة منذ أشهر ولا تريد أن تبرأ وهي تحاول أن تفهمه انه محروم من أكل الحلوى، لكنه يبكي، وتحاول خلسة أن تمرر له قطعة صغيرة، إنها تحبه، ولا تحب أن تراه باكياً محروماً، مما يشتهي، تشتهي هي أيضاً تلك القطعة المسكرة الوردية اللون، تنظر إلى زميلاتها دوماً في المدرسة ، وهن يتناولن قطع السكر الملونة، ولكنها لا تستطيع، تنظر إلى جرح يده الذي بات غائرا يشبه قطعة من الفحم السوداء، يتألم ويشير إلى موضع الجرح، تضع له قطعة من قطن معقم، وتلفها حول معصمه الصغير المجروح، لعل ألمه يهدأ.
هي لا تعرف لماذا يد خالد متورمة بهذا الشكل، لماذا لا تبرأ، والدها قال لها بالأمس إنها ستشفى، ولكنها لا ترى أي علامات لشفائها. تعود إلى درس الرسم الذي بدأت تنصه عليه قبل ساعة، تحاول أن ترسم شمساً، تحاول أن ترسم زهراً، ترسم ولداً وبجانبه قطع كثيرة من السكر، لكن خالد لا ينظر، ولا يفهم، صوت بكائه في ارتفاع، تدخل أمه، تحمله، تحاول تهدءته لكنه لا يسكت. إنها حقنة أخرى يحملها والدهما في يده، يأتي بها على عجل، صوت خالد يرتفع خوفاً حين رؤيتها، تحاول أن تقترب، تدفعها الأم جانباً، ترأف لحالها، يكفيها أن تحمل همها، تداعبها، تبعد شبحا من خوف ارتسم على محياها، لكن خالد يتألم.
تسمعه أغنية على نغمات صوتها الطفولي البريء، ترقب صمته المفاجئ، وتكمل النشيد، ينظر إليها وقد هدأت تراسيم وجهه قليلاً ، يصرخ فجأة يتذكر قطعة السكر الوردية، يشير إليها، لكن والدها يقول كلاماً لا تفهمه:لا يمكن أن يأكل السكر.
تحاول أن توضح له: سنأكل معا الكثير من السكر حينما يشفى ذلك الجرح يا خالد، هي تعلم أن ألمه لا يطاق، هي تعلم انه مشتاق لقليل من السكر، هي تعلم كم هو جميل طعم السكر، إنها مثله متخوفة من الغد، هي تبكي لأنها لا تستطيع عمل شئ، لقد نبهها والدها مرارا بان تلتزم بتعاليم الطبيب حتى لا تحدث لها غيبوبة كما حدث في الأسبوع الفائت، وحتى لا تصاب بجرح مثل أخيها خالد، يصعب التئامه.
تحدث نفسها، حياتنا مشرقة يا أبي، نريد أن نحياها، حياتنا قصيرة جداً، نريد أن نضحك، أن نركض، أن نذهب بعيدا كما يذهب الأطفال، أن نشتري قطع السكر في كل ساعة ودون تحديد لميعاد، أن تلتئم جراح خالد ويكف عن البكاء.
خالد يهدأ يلتزم النوم، يستسلم، يأخذه سبات عميق، تهدأ هي، تستسلم، تنام إلى جانبه، تتخوف من يوم الغد، في الغد سيقول لهم الطبيب ما يجب فعله لإنقاذ يد خالد المصابة.
في الغد خرج خالد من غرفة العناية المركزة، بدون يد، يصرخ في وجه لمارين، يبحث عن يده، لا يعلم إلى أين أخذت، لا يفهم شروح أمه، دموعها تغطي على محاولتها بمواساته، لا يفهم معنى المواساة ، يتأمل أخته، إنها مثله، ينظر إليها، تنظر إلى يدها، تبتسم، تتأمل علتها، تضحك، أنا مريضة بالسكر، مثلك يا خالد، لا تبك، لا تتألم ، دموعها تسقط في نظرة إلى يدها المرتعشة الخائفة، والى يد خالد الطرية المبتورة.
تتخيل عجزها، تصبر..تكبر..تقوى.. تنظر إلى خالد، تهمس في أذنه مبتسمة ودموعها تنزل: أتريد قطعة من السكر؟!