على جبل بيتا من جديد، نُقل جميل أبو عياش، مصاب برصاصة متفجرة بالرأس، وخلفه عشرات من الرفاق، ليس على لسانهم سوى كلمة واحدة" يا رب"، تخرج من داخل القلب المكلوم بمشهد صديقهم الذي توقعوا أن يفارقهم الليلة، فالرصاصة غائرة في مقتل، والدماء نازفة من الرأس حتى أخمص القدم.
أبو عياش إبن الواحدة والثلاثين كان نجارا، يعمل في تصميم الديكورات الفنية الخشبية، ويفهم تماما ما الذي يريده الاحتلال من بيتا، فكان دائم المشاركة على الجبل في كل يوم جمعة، كعادة أشاوس صبيح، من يوصلون ليلهم بنهارهم، متزوج وليس له أولاد، بل كان يحلم بأن يكون له ولد يستأنس به وهو يقارع المحتل من فوق الجبل.
عائلة الشهيد بسيطة، كما أخبرنا موسى حمايل رئيس بلدية بيتا، الذي وصف أيضا كيف شارك آلاف الفلسطينيين في تشييع جثمان الشهيد جميل أبو عياش الذي تصدر جسده مسيرة ضد الاستيطان في بلدة بيتا جنوبي نابلس.
وأقيمت للشهيد جنازة عسكرية مساء الجمعة انطلقت من أمام مستشفى رفيديا الحكومي في نابلس بمشاركة قوات الأمن الفلسطينية.
كانت كحفل ابتهاج ردد فيه المشيّعون هتافات البيتاوية المصرين على الحياة منذ ما يقارب العام، يقضون جمعة وراء الأخرى على جبل صبيح، رسالتهم هي البقاء، والموت في سبيل ذلك، متوعدين باستمرار المقاومة الشعبية الفلسطينية على جبل صبيح حتى دحر الاستيطان والاحتلال.
ولا يكتفي العناد في بيتا عند تشييع شهيد وهو واحد من تسعة شهداء ارتقوا منذ تموز الماضي، منذ أعلنت بيتا عنادها غير المنتهي، ففي طريق عودتهم من التشييع، هاجم شبان فلسطينيون من بلدة بيتا المحتلة حاجزاً عسكرياً في الشارع الاستيطاني الالتفافي قرب البلدة، كما أحرقوا الإطارات المطاطية في محيط معسكر حوارة.
ولم يكن أبو عياش الحالة الوحيدة بالأمس، بل واحد من بين 68 مواطناً أصيبوا خلال المواجهات التي اندلعت الجمعة مع قوات الاحتلال قرب جبل صبيح.
ولا زالت بيتا التي تجددت فيها مقاومة أشبه بتلك التي ثارت عام 1988 حينما فرضت قوات الاحتلال عليها الحصار ومنع التجول وهدمت منازل المواطنين والمقاومين، ومشطت الأراضي وقتلت من قتلت وطارد آخرين كثر لغرض بناء مستوطنة فوق أراضي البلدة.
يومها قالها «أرئيل شارون» صراحة في نيسان 1988 " يجب أن نمسح أهالي بيتا عن الأرض مسحا".
كان ذلك حينما انتصرت بيتا على المستوطنين وجيش الاحتلال وأحبطت إقامة مستوطنة على جبل "العرمة" الذي تعود ملكيته إلى أهالي بيتا والقرى المجاورة لها.
وانتهت القصة بانتصار بيتا وانقلب المستوطنون على أعقابهم عن جبل " العرمة" ولكن الفكرة لم تنقلب!!
عاد الاستيطان الذي تعود سياسة السرقة بعد أكثر من ثلاثين عاما ليبدأ لغبائه بتجريب المجرب، وكأن شيئا في عقول أهالي بيتا وقلوبهم قد تغير، وحاول تجديد فكرته الاستيطانية فوق جبيل صبيح الجبل المقابل لجبل "العرمة" العائد ملكيته إلى البلدة وما يجاورها من أراضي.
بعد ثلاثة وثلاثين عاماً، وفي فترة انشغال الفلسطينيين في قضية الشيخ جراح وفي الحرب على غزة، وتحت اسم " أفيتار" بدأ الاستيطان يغزو واقع أهالي بيتا من جديد.
جاء ذلك تنفيذا لأحلام يهودية قديمة، وتنفيذا لمخطط وضعه مجلس المستوطنات الذي اقترح البناء على رؤوس جبال الضفة الفلسطينية. منذ تلك اللحظة، وبيتا في عناد، وكلما سقط شهيد، زاد العناد أكثر.