خلال الأشهر الأخيرة، ومنذ أحداث الشيخ جراح باتت الهبات الجماهيرية شرارة تنتقل داخل المدن والقرى، حتى أنها وصلت إلى الخارج الفلسطيني والعربي، الذي بات مشاركاً واضحاً في كل هبة فلسطينية، في ظل تضامن إعلامي عالمي كبير.
المشاهد الأخيرة التي تتوالى من النقب المحتل كانت آخر الهبات الجماهيرية التي يتوقع محللون أن لها ما بعدها. فهي جعلت الاحتلال يأخذ بعين الاعتبار القضايا المتراكمة في المحاكم ضد مصادرة أراض وبيوت فلسطينية، بعد أن كان يضرب عرض الحائط بكل القضايا التي رفعها فلسطينيون في المحاكم، وظهر جلياً أنه بدأ الآن في التراجع، وبدأت تظهر على السطح مصطلحات مثل "صفقات التسوية".
وإذا نظرنا إلى نتائج الأمر من جانب آخر، لا نستطيع أن نتجاهل ما حدث قبل أيام حينما اعترف الجيش الاحتلال الإسرائيلي بمقتل ضابطين داخل معسكر في غور الأردن، بعد أن اشتبه الضابط الذي أطلق عليهما النار بأنهما مهاجمان فلسطينيان.
هذه ليست الحادثة الأولى، فقبل عام وفي حدث آخر مشابه، أطلق أحد الجنود المتحصنين في أحد الأبراج العسكرية بعمارة الرجبي في سلوان، التي استولت عليها سلطات الاحتلال، الرصاص على جندي آخر في المكان مشتبها بأنه مقاوم فلسطيني، قبل أن يتبين لاحقا أنّه زميله في الجيش.
وفي سياق متصل بتصاعد الأوضاع، أعلن الجيش –كما ورد في ترجمة موقع الهدهد- عن موجة استقالات بين شرطة العدو في اللواء الجنوبي، مرجعين ذلك حسب ادعائهم إلى استمرار حوادث العنف والجريمة التي لا تنتهي في الجنوب.
وهكذا قرر قائد مركز شرطة المدينة نائب المقدم ليئور زوهار، الاستقالة بعد عام واحد فقط من تولي منصبه، والسبب متعلق بكثرة الأحداث مع نقص ضباط الشرطة، وعدم الثقة في القيادة، وفق "الهدهد".
زياد بحيص، المحلل السياسي والباحث في الشأن الإسرائيلي، يرى أن هناك نتائج مباشرة وغير مباشرة للهبات الجماهيرية كان لها بالغ الأثر في العام الماضي وبدت واضحة مع بداية هذا العام.
يقول بحيص: "الجدوى المباشرة خلال عام 2021 كانت منع إغلاق ساحة باب العامود، ووقف تهجير حي كرم الجاعوني في الشيخ جراح، وإفشال اقتحام 28 رمضان بالأيدي العارية.
يتابع: "وها هي الإرادة الشعبية في طريقها لمنع تهجير بدو بئر السبع لتفرض تراجعاً صهيونياً جديداً".
وعن الجدوى غير المباشرة يرى أنها تحتاج إلى رصدٍ متأنٍ، مشيراً إلى أن إحدى تجلياتها استقالة 600 ضابط وعنصر من جهاز الشرطة الصهيونية خلال عام 2021، بزيادة 100% عن عام 2020، وبما يشكل 2% تقريباً من عدد جهاز شرطة الاحتلال الذي يقارب 32 ألفاً، على حد قوله.
ويعلق بحيص على الخبر الأخير لافتاً إلى أن الصحافة الإسرائيلية تتحدث عن الأجور، لكنها تستبطن صعوبة المهمة، في مواجهة جماهير القدس والداخل المحتل، مشيراً إلى أن الخدمة في الشرطة الصهيونية لم تعد مغنماً.
ولعل آخر الصور التي تمثل صمود الهبات الجماهيرية الشعبية هي تلبية المصلين لنداء صلاة الفجر يوم الجمعة الماضية تضامناً مع موظفي الأوقاف وحراسها الذين يتعرضون للاعتقال والإبعاد.
وتلبية لهذه الدعوة، اجتمع آلاف المصلين لأداء صلاة الفجر رغم تدني درجة الحرارة وتواصل هطول الأمطار.
الدكتور عبد الله معروف المختص بدراسات بيت المقدس يرى أن الهبات التي حدثت ما بين 2015 و2021 كان لها أثر كبير في إضافة معادلة جديدة للردع في القدس أمام الاحتلال، الذي عرف من خلال هذه الهبات الشرعية أن التعامل بطريقته مع المسجد الأقصى المبارك يفرض عليه مواجهة الهبات الشعبية المقدسية، خاصة في ظل تراخي الردود العربية.
ويرى معروف في مقابلة مع "الرسالة" أن الاحتلال حاول تغيير الوضع الراهن في الأقصى من خلال سياسة الأمر الواقع ولكن الهبات الشعبية في 2017 و2019 و2021 أثبتت أن المقدسيين باعتبارهم قوة شعبية غير مؤطرة قادرون على قلب المعادلة في القدس وفي المنطقة. ويقول: "إن الاحتلال يتخوف الآن كثيرا عند أي محاولة لحسم قضايا فلسطينية لأنه يعلم أن هناك ثورة شعبية قوية".
ويضيف أن ما يميز هذه الهبات أنها ذات طابع شعبي غير مؤطر سياسيا، يعني لا يمكن التعامل معها بسهولة أو توقع قوتها ومداها، وهذا يصعب على الاحتلال رد الفعل على أي عملية اعتداء على حقوق الفلسطينيين.
ويعتقد أن الفترة القادمة ستكون حاسمة خاصة مع تزامن مناسبات دينية مثل شهر رمضان القادم الذي يصادف أعياد الفصح اليهودية، التي تحاول جماعات متطرفة أن تجعلها نقطة تغيير في مسيراتها للسيطرة على المسجد الأقصى.