بعد أن كانت حلاً فريداً من نوعه

حصمة "الكسارة".. زلزال كامن والمواطن نائم

"الأشغال": نحذر منها, والإشكالية في الديمومة وليست في القوة

مهندس مدني: تأثيراتها سلبية ولم نوص باستخدامها

مختصون: تُستخدم لرصف الطرق وتعبيدها فقط

سلطة البيئة: استخراجها يهدد البيئة الطبيعية

الرسالة نت– أحمد الكومي

بعيداً عن التجمعات السكانية، وبعد المرور بعدة شوارع رملية تستغرق منك وقتاً طويلاً، تقف أمام منظر يمكن وصفه لبرهة من الزمن بـ"المهيب"، ضوضاء تلف المكان، غبار يغزو المنطقة، حشود كبيرة من أصحاب العربات تصطف لتحجز مكاناً لها، من أجل أن يعرضوا ما جمعوه من ركام المباني المدمرة.

وفي الوقت ذاته، تتقاطع أصوات المحتشدين مع صوت آلة الكسارة، ذات الشفرات الحادة، التي تدخل مخلفات المباني المدمرة من إحدى الجهات، وتخرجها من الجهة المقابلة بمنظر رائع، وكأنها حبات من البندق.

"أصحاب العربات" أبطال الحكاية، يستيقظون في ساعة مبكرة، متوجهين إلى المنازل التي دمرتها آلة الحرب الصهيونية التي لم يزل ركامها قائماً حتى هذه الأوقات، يتسللون خلف الأنظار خوفا أن يراهم أصحاب هذه البيوت ويمنعوهم من نقل جزء من مخلفاتها, وذلك بهدف بيعها بأسعار رمزية لصاحب الكسارة ليعيد تفتيتها من جديد إلى مادة الحصمة.

وعلى الجهة الأخرى، وفي حاصل قريب في إحدى البيوت التي تبعد أمتاراً معدودة من مكان الكسارة، ينتظر أصحاب شركات المقاولات والمواطنون الراغبون في البناء، على أحر من الجمر، لشراء ولو كمية قليلة من ناتج الحصمة المدورة "الكسارة"، لاستخدامها في إنشاء المباني والمنشآت المدنية.

توجه الشركات والمواطنون، لم يأت من فراغ، وإنما جاء كردة فعل أولية للحصار الصهيوني المفروض على القطاع، وما نتج عنه من منع لدخول موارد البناء، منذ ما يزيد عن خمسة أعوام.

الحصمة المدورة "الكسارة" شكلت بديلا اضطراريا في ظل استمرار إغلاق المعابر ومنع إدخال مواد البناء خاصة الحصمة، ورغم أهميتها في الوقت الحالي إلا أنها تعد خطراً حقيقياً يستوجب الحذر منه والتنويه من شبح جديد يلاحق الغزيين بعد أن كانت في بدايتها حلاً فريداً من نوعه.

"الرسالة" بدورها استمعت لعدد من المختصين في هذه القضية الحساسة، التي من المتوقع لها أن تشكل أزمة حقيقية تؤثر على مسيرة البناء والتطوير في قطاع غزة، ونقلت أقوالهم على شكل رسالة موجهة للمواطنين تحذرهم من استخدام الحصمة المدورة في أعمال البناء وخاصة الخرسانة.

من الأولويات

ومن الأهمية بمكان توجيه اهتمام وأولويات الحكومة الفلسطينية لمشاريع الإسكان وتوفير الدعم المالي لتلبية احتياجات محدودي الدخل، وهم الأغلبية، والتركيز على البناء منخفض التكاليف، ونقل خبرات ومهارات الدول في مشاريع الإسكان وتلبية الاحتياجات في هذا القطاع.

وفي الوقت ذاته تحذير المواطنين مما فيه ضرر عليهم، وليس فقط التغني بأن الحصار هو رأس الأفعى في كل ما يمروا به من تضييق وخناق.

 وهو ما تقوم به وزارة الأشغال العامة والإسكان التي تشق طريقها برويّة وتأنٍّ باتجاه وضع قطاع الإسكان على أولويات أجندة المانحين.

وفي هذا السياق أكدت المهندسة وداد أبو دية مديرة دائرة البحوث في الوزارة، على أن وزارتها تبذل كافة الجهود لتحذير المواطنين من استخدام الحصمة المدورة في البناء وخاصة أعمال الخرسانة.

وعزت أبو دية الأسباب، إلى عدم وجود الدراسات والأبحاث العلمية التي تعطي حصمة الكسارة الصلاحية الكاملة لاستخدامها في أعمال الخرسانة.

وقالت:" لا ننصح باستخدام هذه الحصمة في أعمال البناء، لأن المشكلة تقع في مدى تحمل وصمود الخرسانة المكونة منها لفترة طويلة من الزمن".

غير أن المهندسة أبو دية أكدت أن الوزارة أجرت العديد من الفحوصات لاختبار قوة الخرسانة المكونة من حصمة الكسارة، وخرجت بنتائج علمية تؤكد قوة الخرسانة وإمكانية مقارنتها بالخرسانة الطبيعية.

وأضافت: "الإشكالية تقع في ديمومتها وليس في قوتها"، لافتة في الوقت ذاته إلى أنه لم يدرس أي مختص ديمومة الخرسانة المكونة من الكسارة.

وأشارت إلى أن خرسانة الكسارة تعد أكثر عرضة للتشققات والإنهيارات، مضيفة:"  الخرسانة بطبيعتها تتعرض للتلف والتشقق ببطء شديد، وتأخذ وقتاً طويلاً، ولا تحدث فجأة ، وهو ما لا يتوقعه المواطن".

وعلى صعيد آخر قالت أبو دية إن الوزارة تستغل الخرسانة المكونة من حصمة الكسارة في مصانع الحجار والبلوك، بالإضافة إلى رصف الطرق وتعبيدها والتي لا تمثل أي خطر يذكر على المواطن الفلسطيني.

في حين كشفت مديرة دائرة البحوث عن اقتراب نفاد الكميات المتوفرة من حصمة الكسارة في قطاع غزة، وذلك بسبب استخدام كميات كبيرة منها في الأشغال العامة, حسب قولها.

رؤية واضحة

الحفاظ على حياة المواطنين وسلامتهم الأمنية يتوجب توحيد الجهود، للوصول إلى رؤية واضحة من قضية البني الأساسية اللازمة للمواطن الفلسطيني.

وهو ما يتطلب تكثيف التعاون بين وزارة الأشغال والبلديات ونقابة المهندسين وكليات الهندسة في الجامعات الفلسطينية، لتحديد الرؤية تجاه البناء منخفض التكاليف، وأن يتم عكسه في قوانين البلديات.

وفي هذا السياق فقد أجرت الجامعة الإسلامية بغزة، العديد من الأبحاث والدراسات على الحصمة المدورة "الكسارة" لتتعرف على ضيف جديد بدأ يهدد حياة المواطن من جديد.

وأكد الدكتور جهاد حمد المختص في الهندسة المدنية بالجامعة، اجراء العديد من الدراسات على موضوع الحصمة، خرجت بنتائج جيدة. حسب وصفه.

ولفت حمد إلى أنه بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، وإخلاء المستوطنات، توفر أكثر من نصف مليون متر مكعب من الحصمة، مؤكداً أنه تم دراسة إعادة استخدام هذه الحصمة في صناعة الخرسانة والأحجار والإنترلوك "بلاط الشارع".

وأشار إلى أن الكمية أخذت تزداد شيئاً فشيئاً بعد العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وذلك نتيجة لتدمير عددا كبيرا من المباني والمنشآت المدنية، موضحاً أن كثرة المباني المدمرة دفع بوزارة الأشغال العامة والإسكان إلى تشكيل لجنة من عدد من المختصين من أجل دراسة إمكانية تدوير الدمار المتراكم واستغلاله في صناعة الخرسانة من خلال إعادة تدويره مجدداً.

وقال إنه بعد الدراسة العميقة والمتأنية خرجت اللجنة بإمكانية استخدام الحصمة المدورة في صناعة الحجر ورصف الطرق وتعبيدها فقط، مشدداً في الوقت ذاته على أن الجامعة الإسلامية بالتعاون مع وزارة الأشغال تحفظت على استخدام الحصمة المدورة في صناعة الخرسانة.

وأرجع حمد الأسباب في ذلك إلى مدى الديمومة المتوقعة للحصمة المدورة على المدى البعيد، مستطرداً:" نسبة الامتصاص في الحصمة المدورة عالية جداً، وعليها لا ينصح باستخدامها في الخرسانة".

وأضاف:" نسبة الامتصاص العالية جعلنا قلقين من النصح باستخدامها في الخرسانة".

وتابع حمد:" قوتها تعتمد على النسب المضافة للخرسانة، ولو زدنا كمية الموارد الإنشائية الأخرى يمكننا الحصول على قوة حقيقية توازي قوة الخرسانة الطبيعية".

وأوضح المهندس المدني أن الجامعة الإسلامية أجرت العديد من الفحوصات على خرسانة الكسارة، وقال إنه في أغلب الأحيان نجحت في اختبار القوة، موضحاً في ذات السياق على عدم وجود دراسات علمية تثبت مدى الديمومة المتوقعة لهذه الخرسانة.

وفيما يتعلق بوجود بدائل أخرى لحصمة الكسارة تفي بالغرض وتلبي حاجة المواطن، أكد على عدم وجود بديل آخر لها، قائلاً:" عملية البناء تتوقف بنفادها".

واختتم حمد حديثه قائلاً:" لم نوص باستخدامها إلا أن المواطنين يستخدمونها لعدم وجود بديل، وعليهم ألا ينسوا بأن لها تأثيراتها سلبية".

نتائج مقبولة

وفيما يتعلق بخصائص الحصويات المعاد تصنيعها في تطبيقات صناعة الخرسانة ورصف الطرق، تمكنت "الرسالة" من الحصول على ورقة عمل لعدد من المختصين العاملين في الجامعة الإسلامية الذين ألقوا من خلالها الضوء على نتائج برنامج الفحوصات الذي أجراه المختصون "م. رفعت رستم وم. صلاح طه، وم. على بدرانة وم. هاني البراهمة.

ورقة العمل بينت خصائص الحصويات المسحوقة وقارنتها بالمعايير الدولية، وتم فحص خيار إعادة الاستخدام كبديل في الخلطات الخرسانية وإنشاء الطرق خلال برنامج الفحوصات.

وانتقى المختصون ثماني عينات ممثلة من مواقع مختلفة في رفح وخانيونس، وأثبتت الفحوصات في نهايتها بأن الحصويات المعاد تصنعيها واستخدامها في صناعة الخرسانة وطبقة الأساس في الطرق تعطي نتائج مقبولة.

وكانت معظم نتائج الفحص ضمن الحدود المقبولة، وأكدت ملاءمة الحصمة المدورة لاستخدامها في رصف الطرق وتعبيدها.

وتم بعد انتهاء برنامج الفحوصات تصميم خلطة خرسانية محلية لاستخدامها في فحص استخدام مخلفات البناء والهدم في مجال الخرسانة، وأعطت هذه الخلطة "حسب التصميم" 250 كجم/سم2 كقوة تحمل عند 28 يوم بمعدل 0.6 ماء إلى اسمنت و290 كجم محتوى إسمنتي، وكانت نتائج الفحوصات أعلى من التوقعات وأعطت مؤشرات  إيجابية إلى حد ما.

حاجة ملحة

الحاجة الملحة للبناء ومواجهة تحديات العصر عند المواطن الفلسطيني، اضافة إلى قرب نفاد الكمية المتوفرة من الحصمة الموجودة في القطاع بفعل الحصار الصهيوني المفروض عليه، دفع به للتعدي على الموارد الطبيعة التي توصف بندرتها في قطاع غزة.

المواطن الغزي توجهت أنظاره نحو إحدى الموارد الطبيعية "وادي غزة"، حيث تعد الحصمة في مجرى الوادي مصفاة طبيعية لتنقية المياه قبل وصولها إلى الخزان الجوفي.

وتشهد منطقة مجرى وادي غزة حركة نشطة لعشرات الجرافات والآليات، التي تقوم بأعمال الحفر والتنقيب لاستخراج الحصمة من الأرض ليعاد استخدامها، وذلك تحت ضغط الحاجة التي دفعت الغزيين إلى التفكير السريع من أجل المضي قدماً في حياتهم وإعادة اعمار ما هدمه الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه الأخير على القطاع.

المختصون في مجال البيئة حذروا من مخاطر عملية جمع الحصمة من بطن الوادي، وقالوا إن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى خلخلة وتفكيك التربة، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى حدوث انجرافات واسعة في التربة، وأشاروا إلى أن إزالة الحصمة تؤثر على جودة المياه الجوفية، لاسيما وأنها تعد مصفاة طبيعية.

وفي هذا الصدد شدد المهندس عزمي نعيم من سلطة جودة البيئة على أن استخراج الحصمة من الوادي يعد جريمة بيئية، قائلاً:" يؤدي إلى خلخلة وتفكيك التربة، الأمر الذي يسبب انجرافات خطيرة في التربة في حال حدوث الفيضانات، وهذا ما يحدث في غزة وإن اختلفت الطريقة والأدوات وحتى المكان، حيث يُجمع الحصى، لاستخدامه في إعادة الاعمار، ما يؤثر سلباً على البيئة الفلسطينية التي تعاني من مشاكل متعددة لا نهاية لها".

ويؤكد نعيم بأن وزارة الاقتصاد أوقفت بدورها أعمال استخراج الحصمة من وادي غزة، وذلك بعد أن وصلت عدة رسائل للوزارة توضح الآثار والانعكاسات السلبية التي ستلحق بالبيئة في القريب العاجل. على حد قوله.

وناشد نعيم المجتمع الدولي بضرورة وقف الحصار والسماح بدخول كافة مواد البناء، وفي مقدمتها الحصمة لتمكين المواطنين من إعادة ما دمرته آلة الحرب الصهيونية، داعياً المؤسسات الحقوقية والبيئية للعمل على إعادة روافد وادي غزة إلى طبيعتها، وإعادة تهيئته كمحمية طبيعية لاستقبال الكميات الكبيرة من مياه الأمطار.

هي معاناة تتجاوز مفهوم الكلمات، فقبل سنوات كتب الفيلسوف الفرنسي أوجين يونيسكو يصف الحالة الخطيرة التي بلغتها الإنسانية اللامبالية ازاء ما يحدث من حروب بقوله: يستمر التقتيل خلف الأشجار الجانبية في الوقت الذي يواصل فيه المارة بالهرولة على الطريق الكبير دون سماع الصراخ، والحال أن غزة تواصل الصراخ دون أن يسمع العالم نداءها بالرغم من دق أجراس الخطر وقرع ناقوس الموت، يستمر العالم في التغاضي عن الإبادة الجماعية الصامتة.

 

البث المباشر