المشاهد القاسية التي توثق بالصوت والصورة اقتحامات جيش الاحتلال المتتالية لباحات المسجد الأقصى، واعتداءاته العنيفة والمتواصلة ضد المصلين والمعتكفين الفلسطينيين في المسجد الأقصى من الرجال والنساء والأطفال والمسنين على حد سواء في شهر رمضان المبارك، والتي خلفت عشرات الجرحى ومئات المعتقلين في باحات الأقصى والبلدة القديمة بالقدس، والتي جاءت بعد حملة اعتقالات واسعة شنها الاحتلال ضد النشطاء الفلسطينيين في الضفة المحتلة، في إشارة واضحة إلى مخطط صهيوني بتهويد المسجد الأقصى تقوم حكومة بينيت-لابيد اليمينية بتنفيذه فعليًّا على أرض الواقع.
لطالما كان مخطط فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى بين المسلمين واليهود حلمًا يراود المحتلين الصهاينة منذ أن وطِئت أقدامهم الأرض الفلسطينية المحتلة، واليوم يحاولون استغلال الأعياد اليهودية لاستنساخ تجربة تقسيم مسجد الحرم الإبراهيمي وسط مدينة الخليل في الضفة المحتلة التي بدأت فعليًّا في إثر مجزرة الحرم الابراهيمي التي راح ضحيتها 29 فلسطينيا عام 1994، ونقلها إلى المسجد الأقصى في القدس، بحيث يتم تحت تهديد السلاح تخصيص أيام محددة للمحتلين اليهود للدخول إلى باحات المسجد الأقصى، وإقامة صلواتهم التلمودية باعتباره مكانًا مقدسًا لليهود، في خطوة أولى تهدف إلى فرض واقع جديد في المسجد الأقصى، بحيث تتيح للمحتلين هدم المسجد بعد سنوات وإقامة كنيس يهودي يطلقون عليه زورًا "هيكل سليمان".
من يتابع إصرار حكومة الاحتلال على فرض التقسيم الزماني والمكاني بالقوة المسلحة يدرك أن الاحتلال يرى في الوقت الحالي فترة ذهبية لتنفيذ مخططاته التهويدية للمسجد الأقصى المبارك، فالاحتلال يسابق الزمن نحو إقامة هيكل يهودي مكان المسجد الأقصى لعله يساعد الكيان الصهيوني على اجتياز معضلة العقد الثامن بسلام، حيث يتشاءم اليهود الذين أسسوا كيانهم على الظلم والاضطهاد لأصحاب الأرض قبل أربع وسبعين سنة من وصول عمر الكيان لعقده الثامن، ويخشون من عدم قدرتهم على اجتيازه بسلام، ويعبر عن هذه الهواجس تصريح شهير لرئيس وزراء حكومة الاحتلال نفتالي بينيت أدلى به لصحيفة "ماكور ريشون" العبرية في ديسمبر 2019، وقال فيه: "إننا داخل العقد الثامن لدولة إسرائيل. وفي تاريخنا كله، كان لنا دولتين هنا في أرض إسرائيل، لكن لم ننجح أبدًا في عبور العقد الثامن كدولة موحدة وذات سيادة".
التطبيع العربي وهرولة بعض الأنظمة في المنطقة العربية للتحالف مع الاحتلال شكّل دافعًا قويًّا للاحتلال للعمل على تنفيذ مخططاته التهويدية في القدس في هذه المرحلة، حيث يرى الاحتلال أن ضعف الواقع العربي يحول دون رد فعل حقيقي ضد مطامع الاحتلال في القدس، كما أن توقيع بعض الأنظمة العربية اتفاقيات ذات بُعد إستراتيجي في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية وفرت للاحتلال دعمًا حقيقيًّا لاستمرار قوته وهيمنته على دول المنطقة العربية، أضف إلى ذلك عمق التعاون الأمني الذي تقوم به السلطة الفلسطينية في الضفة المحتلة، الذي وفّر غطاءً أمنيًّا للاحتلال أعانه على وأد الغضب الفلسطيني في ساحة الضفة من خلال عمليات القتل والاعتقال التي يقوم بها على مدار الساعة، والذي تضاعف بشكل ملحوظ خلال الآونة الأخيرة في الضفة والقدس، ورغم تلك الجرائم المتصاعدة لم تستطع تلك السلطة عقد اجتماع رمزي لها في رام الله دفاعًا عن القدس والمقدسات في دلالة على أن تلك السلطة باتت عاجزة عن القيام بأي دور وطني لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
وفي الداخل المحتل أسهم حزب "راعم" الذي يرأسه منصور عباس في توفير غطاء سياسي لحكومة الاحتلال لتهويد المسجد الأقصى، حيث إن مشاركة هذا الحزب في الائتلاف الحاكم لكيان الاحتلال تعني مشاركة عملية في جميع الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، ورغم أن شورى الحزب اتخذت قرارًا بتجميد عضويته في كنيسيت الاحتلال والائتلاف الحاكم احتجاجًا على هجوم جيش الاحتلال على المسجد الأقصى إلا أنها تبقى خطوة رمزية لا أثر حقيقي لها خاصة أنها تأتي في ظل إجازة رسمية لكنيسيت الاحتلال، ولا تعبر عن رغبة وطنية بدفع ثمن الدفاع عن القدس من خلال الانسحاب من حكومة بينيت اليمينية رغم القدرة على اتخاذ هذا القرار، وذلك لإدراك حزب "راعم" أن حكومة بينيت ستسقط مباشرة بمجرد قرار الانسحاب منها.
حملة الشجب والاستنكار الدولية التي أطلقتها العديد من دول المنطقة والعالم، ورغم أهميتها فإنها لا تشكل عبئًا حقيقيًّا على حكومة الاحتلال التي تضرب عرض الحائط بكل المواثيق الدولية ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية، وبالتالي فإن هذه الإدانات الخجولة لا تساوي قيمة الحبر الذي كُتبت به، واللافت أن سفراء كل من مصر والأردن والبحرين والإمارات والمغرب وتركيا شاركوا جميعًا إلى جانب رئيس حزب "راعم" وعدد من أعضاء الكنيسيت العرب في مأدبة إفطار رمضانية أقامها رئيس الكيان الصهيوني يتسحاق هرتسوغ بعد ساعات من هجوم جيش الاحتلال على المصلين في المسجد الأقصى، وكأن الدماء لم تُسل في الأقصى، في رسالة واضحة تؤكد عدم اهتمام تلك الدول والشخصيات بما يحدث في القدس، ومن يعجز عن الاعتذار عن مأدبة إفطار احتجاجًا على جرائم الاحتلال في المسجد الأقصى كيف له أن يواجه كيان الاحتلال في المستقبل!!
فصائل المقاومة الفلسطينية تدرك جيدًا مآرب الاحتلال الخفية، ومخططاته لهدم المسجد الأقصى، لذلك سارعت إلى إعلان الاستنفار التام، وتحذير الاحتلال من مغبة الاستمرار في عدوانه ضد المسجد الأقصى، مطالبة بوقف العدوان، والإفراج عن المعتقلين من باحات الأقصى، والتوقف عن خرافة ذبح القرابين فوق صخور المسجد الأقصى، وإتاحة حرية التعبد والاعتكاف للمصلين المسلمين، كما أعلن أهلنا في القدس والداخل المحتل استنفارهم دفاعًا عن حرمة المسجد الأقصى، وشكلوا قاطرة من الدعم البشري من مدن شمال ووسط فلسطين المحتلة وصولًا إلى المسجد الأقصى للرباط في ساحاته، كما نجحت المقاومة في الضفة المحتلة في إشعال عشرات النقاط من الاشتباك الشعبي مع الاحتلال ومستوطنيه على طول الضفة المحتلة، كما نفذت العديد من عمليات المقاومة التي تخللها إطلاق الرصاص على حواجز الاحتلال العسكرية، في إعلان فلسطيني واضح بأن القدس هي عنوان المرحلة، وأن أهل فلسطين هم السدنة الحقيقيون والمدافعون الأبرز عن حرمة وإسلامية المسجد الأقصى مهما كلفت الأثمان.