تصدح الصلوات في الأقصى ما بعد العشاء، حتى تعلو الأصوات القادمة من جوف الأقصى، وأكنافه، ومساجده ومصلياته، فيملأ الخشوع أركان الأرض، وتتغطى المدينة بقدسية، وتحفها من كل صوب همسات المصلين وأدعيتهم.
وهناك على عكازه أتى أمير بدر، المصاب مع بداية أحداث رمضان، للاعتكاف في الأقصى، يميل جسده فوق قدميه وتميل الساق بعكازها، وبين الأنين والأنين إصرار على القدوم والصمود هنا وهو يبتسم قائلاً:" هنا تستشعر الآية "رحماء بينهم" فترى الجميع في خدمة الجميع، في السقاية والطعام والشراب والمبيت".
ويتأمل بدر الأعمدة ويجلس على قدمه المصابة ويكمل: "من ذاق طعم الاعتكاف سيعرف ما معنى أن تطير الروح وتتعلق بالمكان، وتنسى كل الدنيا في الخارج، وقد نصحني الأطباء بعدم الحركة لسوء وضعي الصحي، لكني أتيت وكان قلبي معلقاً باعتكاف العشر الأواخر".
الحاج المقدسي إبراهيم ياسين لم يثنه مرضه ومعاناته من صعوبة في التنفس، عن الوصول إلى محبوبه الأقصى، حاملاً أسطوانة الأكسجين لترافقه أثناء رباطه في المسجد الأقصى.
يقول وهو يحاول التقاط أنفاسه، معبراً عن فرحة لا يستطيع أن يصفها إلا من عاشها: "مستحيل ألا آتي، من هذا الذي يأتي للأقصى وتنقطع أنفاسه؟! أطيب من أكسجين الأقصى لا يوجد!، كيف لي أن أترك الاعتكاف؟، أنا أولى الناس بالاعتكاف، الأقصى يعني لي كل الوقت، الحاضر والأمس وغداً، بيتي وحياتي وحينما أدخله يزول المرض وتنتعش شراييني".
هذا المكان الوحيد الذي يزداد رواده عاماً بعد عام كما يقول الحاج ياسين، حيث يلفت أن الاعتكاف قديماً كان يقتصر على عدد قليل من الناس وأمسيات وحكواتي يتكلم بعض كلمات ثم يغادر، أما اليوم فهناك عشرات بل مئات من المعتكفين يقومون الليل ويخدمون رواد الأقصى في النهار.
تدور فناجين القهوة بعد الإفطار، ثم تبدأ الصلوات والتهجد وقراءة القرآن، وبين الوقت والآخر هناك، يسرق الشباب بعضاً من الراحة ليمارسوا الرياضة وتحريك أجسادهم قبل أن يعودوا إلى عبادتهم.
أما ما قبل موعد الإفطار فتفرد العائلات طعامها، وتقلب مقلوبة الأقصى الشهيرة في أوعية كبيرة وتمتد بين المرابطين، وتدور كاسات الخروب والمياه الباردة لتطفئ ظمأ المصرين على الرباط، وهم يرتشفون رشفة أولى وعيونهم معلقة بالمآذن.
ولم يخلُ الاعتكاف من الأطفال، جاءوا بخيامهم الملونة وافترشوا باحاته من أجل نومة هنيئة في رحاب الباحات الطاهرة، وهناك مريم، طفلة صغيرة من عكا، نصبت خيمتها الملونة في باحات الأقصى وقررت الاعتكاف مع عائلتها، بينما نامت في الخيمة الخضراء المجاورة الطفلتان أسماء وغراس من قلقيلية، حيث الوجود في الأقصى وحده عبادة، بين الأشجار وفي الباحات يتراكض الأطفال حول آبائهم المصلين.
أما العم أبو العز فخيمته لا يجوع عندها أحد، إنه الحاج محمد السعدي من مدينة أم الفحم الذي بدأ اعتكافه مبكراً مع أول يوم في رمضان، مرابطاً لأجل الأقصى. كل يوم يوسع رقعة اعتكافه بإضافة خيمة جديدة؛ فتكاثرت خيام أبو العز لتتسع المزيد من الناس على مائدة سحوره وإفطاره اليومية.
حاول الاحتلال كسر شوكة أبو العز باعتقاله في أول يوم له في الاعتكاف ومساءلته والتضييق عليه ولكنه فور الإفراج عنه أكمل اعتكافه ولا زال ملاصقا للمسجد القبلي وفي خيمته موقد غاز صغير يطبخ عليه يوميا لذيذ الطعام وجرة فخارية كبيرة دائما يملأها بالماء لسقاية ضيوفه الكثيرين، ثم يتفرغ لعبادته في جوف الليل.
وفي موعد السحور، يدور أبو العز بين خيامه والخيام الملاصقة له يتقاسم سحوره معهم، فيرسم مع جيرانه لوحة عشق للأرض والمكان، لا يعرفها إلا زوار ومعتكفو الأقصى.