ختام شهر رمضان؛ يُضاعف الله فيه أجر الأعمال الصالحة، وتتنزّل الرحمات الإلهيّة بالخير الكثير؛ فتُغفر الذنوب، وتُعتَق الرقاب، فمن فاته إدراك خيره، حُرِم، ومن أدرك خيره، قُبل وغُفر له.
ويشهد شهر رمضان على ما كان فيه من الإحسان، أو الإساءة؛ فمن صام نهاره، وقام ليله، وأحسن فيه بالعمل، كان من الفائزين، ومن غَفِل عنه، فأعرض عن الطاعة والعمل، كان من الخاسرين.
ومن أدرك ذلك كان همّه في رمضان حياة قلبه بالإيمان والطاعة، وبذل جهده في الوصول إلى هذا الفضل العظيم، وتجنُّب خسارته.
وقد حَرِص السَّلف الصالح -رضي الله عنهم- على اغتنام الخير، واستغلال أيّام شهر رمضان بالطاعات، رُوي عن الصحابيّ ابن مسعود -رضي الله عنهما- أنّه كان يقول: "ما نَدِمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غَربت شمسه، نَقص فيه من أجلي، ولم يزد فيه عملي"، كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- حريصين على قبول العمل أشدّ من حِرْصهم على أدائه؛ فقبول العمل عندهم علامةٌ على إتمامه وإتقانه، ورضا الله عن فاعله، قال الله -تعالى- في وَصفهم: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، فمن الجدير بالمسلم الاقتداء بالسلف الصالح في اغتنام شهر رمضان بالعبادات والطاعات.
وداع شهر رمضان يجدر بالمسلم اغتنام شهر رمضان إلى آخره بالأعمال الصالحة التي تُقرّبه من الله -تعالى-، ويُذكَر منها
الوقفة الصادقة مع الله:
على المسلم أن يُحاسب نفسه على ما قدّم؛ فينظر في آخر شهر رمضان فيما إن كان قد أدّى العبادة فيه على الوجه الذي يُرضي الله، أو أمضى أيام الشهر ولياليه فيما يحبّه الله، أو تحقُّق التقوى المقصودة من الصيام، أو شعوره بلَذّة العبادة، وتغيُّر سلوكه في الحياة؛ فأصبح عبداً ربّانياً قد أنَارَ القرآن قلبه، وأنارت الطاعة سبيله، فعزم على ترك المعاصي، ونشدت نفسه المغفرة والعِتق من النيران، وأحيا في نفسه الرجاء والأمل، فشَحَذَ إلى الطاعة عزيمته، واجتهد في أيّام رمضان الباقية؛ طلباً للعفو والمغفرة.
لزوم الاستغفار:
فقد كان من هَدْي النبيّ -عليه الصلاة والسلام- إذا فَرِغ من صلاته أن يستغفر الله ثلاثاً، وكذلك كان هَدْي المُتَّقين الذين وصفهم الله بأنّهم يستغفرون بالأسحار بعد قيام الليل، قال -تعالى-: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ*وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
كما أمر الله عباده بالاستغفار بعد أداء مناسك الحجّ، فقال -عزّ وجلّ-: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)؛ فالاستغفار يجبر الخلل الواقع في العبادة. الحرص على طلب العَفو: فالجدير بالمسلم طلب العَفو في شهر رمضان، وخاصّةً في ليلة القدر؛ فقد علّم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- السيدة عائشة -رضي الله عنها- طلب العَفو من الله بقول: (اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ كَريمُ تُحبُّ العفوَ فاعْفُ عنِّي)؛ إذ إنّ الله يحبّ أن يطلب عباده العفو منه، كما أنّه صفةٌ قائمةٌ بذات الله -سبحانه-.
الاجتهاد في الطاعة:
وبَذْل الحدّ الأقصى من طاقة النفس وعزيمتها في الأيّام الأخيرة من شهر رمضان؛ التماساً لليلة القدر، فقد ورد في السنّة النبويّة أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- كان يجتهد في الأيّام الأخيرة من شهر رمضان ما لا يجتهد في غيره، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: (كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ، ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ).
خضوع القلب وخشوعه:
مع ترك الإعجاب والتباهي بالنفس؛ فممّا يُبطل الأعمال، ويُباعد القلب عن إدراك غاية العبادة والعمل الإعجاب والغرور، فلا يتحقّق مقصود العبادة، ولا تنعكس آثارها على النفس في رجائها، وخشوعها، وانكسارها، وقد نهى النبيّ -عليه الصلاة والسلام- عن العجب والتفاخر، فقال: (لا يقولَنَّ أحدُكم إنِّي صُمتُ رمضانَ كلَّهُ وقُمتُهُ كلَّه فلا أدري أكرِهَ التَّزكيةَ أو قالَ لا بدَّ مِن نومَةٍ أو رقدَةٍ).
نَبْذ التخاصم والنِّزاع:
فمن الجدير بالمسلمين ترك التنازُع فيما بينهم؛ إذ إنّ الخلاف من أسباب مَنْع الخير عن المجتمع؛ ودليل ذلك ما أخرجه الإمام البخاريّ في صحيحه عن الصحابيّ عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنّه قال: (خَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ وعَسَى أنْ يَكونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا في التَّاسِعَةِ، والسَّابِعَةِ، والخَامِسَةِ).
توديع شهر رمضان بمِثْل استقباله:
فكما استقبل المسلم شهر رمضان؛ بالهمّة والعزيمة للصيام، والقيام، والإحسان، ومختلف الأعمال الصالحة، فمن الجدير به أن يحافظ على تلك الهمّة بعد انقضاء رمضان، وحريّ على من عَرف فضل الطاعة وذاق حلاوتها أن يُحافظ عليها، ويداوم على أدائها؛ فيدوام على فعل الطاعات، وترك المُحرَّمات، قال الله -تعالى-: (وَلا تَكونوا كَالَّتي نَقَضَت غَزلَها مِن بَعدِ قُوَّةٍ أَنكاثًا تَتَّخِذونَ أَيمانَكُم دَخَلًا بَينَكُم أَن تَكونَ أُمَّةٌ هِيَ أَربى مِن أُمَّةٍ إِنَّما يَبلوكُمُ اللَّـهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُم يَومَ القِيامَةِ ما كُنتُم فيهِ تَختَلِفونَ).
استقبال ليلة العيد:
يستقبل المسلم ليلة العيد بدعاء الله أن يتقبّل منه صيام رمضان، وقيامه، ثمّ شُكره على أن بلّغه أيّام العيد التي تُعَدّ الفرحة الأولى التي وعد الله بها عباده؛ إذ إنّ فرحة العيد تعقب عبادة الصيام، وتكون على إثرها؛ فلا ينبغي للمسلم أن يقابل تلك الفرحة إلّا بالاستمرار في أداء الطاعات، واجتناب المُحرَّمات، دون إفساد العبادات بإحداث البِدَع، أو إظهار اللهو والأمور المُحرَّمة، فيضيع أجر العبادة والعمل، كما أنّ على المسلم إدراك أنّ العيد يبدأ بالصلاة؛ دلالةً على رَبْط الطاعة والعبادة بالسرور المُباح المضبوط.
المصدر موضوع