عندما قال آباء هذه الأمة وأجدادها إن قضية فلسطين هي قضية الأمة، كانوا مدفوعين بحقائق موضوعية أقنعتهم بذلك الموقف، الذي كان موضع إجماع عام، ولم يحُد عنه أيٌّ من حكام العرب والمسلمين فضلا عن شعوبهم.
أهم تلك الحقائق ظاهرة الاحتلال القسري الذي استخدمت فيه القوة لضمان الهيمنة على أرض فلسطين، فهُجِّر بعض أهلها عن أرضه، وقُتِل البعض، وبقي القليلون منهم في جيوب موزعة على تلك الأرض. وبعد خمسة وسبعين عاما، هل انتهت ظاهرة الاحتلال؟ هل تغيرت طبيعة المحتلين الحاليين عما كانوا عليه في سنة 1948؟ هل أصبح الكيان الذي تضافرت قوى العالم الكبرى لإنشائه، أكثر إنسانية ورأفة بمن بقي من شعب فلسطين على أرضه؟
في الأسبوع الماضي أقرت المحكمة الإسرائيلية العليا التماسا ضد طلب حكومة الاحتلال طرد أكثر من ألف فلسطيني من منطقة ريفية بالضفة الغربية المحتلة لكي يمارس الجيش الإسرائيلي تدريباته المنتظمة فيها بعد نحو 20 سنة من المناورات القانونية. وبذلك تم تمهيد الطريق أمام هدم ثماني قرى صغيرة في منطقة صخرية قاحلة بالقرب من الخليل، يعرفها الفلسطينيون باسم مسافر يطا. ماذا يعني ذلك؟ وما الفرق بينه وبين طرد سكان المدن الأخرى عندما حدثت النكبة في مثل هذه الأيام من سنة 1948؟ وما الفرق بين هذا القرار وما حدث في حي الشيخ جراح بمدينة القدس؟ ما الفرق بين الأراضي التي احتلها الصهاينة يومذاك ومرتفعات الجولان التي احتلتها في 1967؟ وبرغم صدور القرارين 242 و338 اللذين اعتبرا الأراضي التي سيطرت «إسرائيل» عليها في حرب 1967 «أراضي محتلة» فقد تجاهلت ذلك كله وأعلنت ضمها مرتفعات الجولان، متحدية بذلك القرارين الدوليين من جهة وتطلعات سكان تلك المنطقة من جهة أخرى. وحتى الضفة الغربية التي يفترض أن تكون تابعة للسلطة الفلسطينية، ما تزال مساحات منها تحت الاحتلال الإسرائيلي، وما تزال المستوطنات تبنى عليها. فما الذي تغيّر إذن في طبيعة الاحتلال واستخدامه القوة لتنفيذ قرارات حكامه من أجل تحقيق أطماعه وأحلامه؟
على الصعيد السياسي حظي الكيان الإسرائيلي بدعم غربي مطلق، وهو دعم لا يتجاوز حقائق التاريخ والجغرافيا فحسب، بل يخترق القيم الإنسانية المتوافق عليها إنسانيا. فالإصرار الغربي على اعتبار «إسرائيل» دولة ديمقراطية مصادرة للمفهوم والممارسة، وتَعدّيا على العقل الإنساني الذي يحتفظ بسمات واضحة للمشروع الديمقراطي. إن هؤلاء إنما يسيئون للمشروع الديمقراطي وأيديولوجيا الغرب المؤسسة على الحرية والليبرالية. فكيف يمكن وصف كيان سياسي يمارس التمييز على أسس الانتماء العرقي والديني بأنه «ديمقراطي»؟ وهل يمكن تجزئة الديمقراطية؟ او انتقاء أجزائها؟ او التجاوز عن ملامح تطبيقاتها؟ فما الأسس الديمقراطية التي تنتهجها قوات الاحتلال حين تحرم الفلسطينيين حق العودة؟ هل يعتبر شعار «الديمقراطية» صكا مفتوحا لمن يلتحف به لتجاوز القيم الإنسانية الأساسية والمبادئ التي تنظم قيم الحرية وحق الاختيار والتساوي أمام القانون وامام صناديق الاقتراع؟ إن هذا التجاوز في قضايا المفاهيم والقيم لا يخدم مشروع الديمقراطية الليبرالية في شيء، بل يسيء إلى هذا المنتج الأوضح في التاريخ البشري المعاصر.
فلماذا يجازف الغربيون بهذا المنجز من أجل مكاسب سياسية محدودة ليسوا مضطرين لها؟ يحدث هذا في الوقت الذي تشير فيه الاحصاءات إلى تنامي ظاهرة «معاداة السامية» في الدول الغربية بمعدلات غير مسبوقة. وحسب الإحصائيات زادت المعاداة للسامية مؤخرا بنسبة (74 في المائة) في فرنسا، والاعتداءات ضد اليهود في ألمانيا زادت إلى (16 ألف) حادثة بزيادة قدرها (10 في المائة). ونشرت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا تقريرا 2020 مفاده أن جرائم معادة السامية شكلت أكثر من 20 في المائة من جرائم الكراهية المرتكبة في دول التكتل الأوروبي. إن من المؤكد رفض معاداة السامية نظرا لما ينطوي عليه هذا العداء من عنصرية وانتقائية وتجاهل للمبادئ الإنسانية الاساسية. فلا يجوز في عالم القرن الحادي والعشرين معاداة أي إنسان بسبب انتمائه الديني او العرقي او الإيديولوجي، وليس مستبعدا أن تكون تصرفات «إسرائيل» وسياساتها تجاه الفلسطينيين من أهم عوامل تصاعد الظاهرة.
في الأسبوع الماضي كتبت صحيفة «هارفارد كريسمون» افتتاحية أحدثت ضجة سياسية وإعلامية واسعة. فقد أعلنت دعمها لحركة «المقاطعة وعدم الاستثمار والعقوبات بي دي اس» التي تدعو لمحاصرة الاحتلال الإسرائيلي اقتصاديا، وهي بادرة غير مسبوقة. وإذا أضيف لذلك التقارير التي تتحدث عن تصاعد ظاهرة «العداء للسامية» في أوروبا، يتضح حجم الصعوبات التي تواجه الكيان الإسرائيلي على الصعيد الدولي. وحتى العلاقات مع الولايات المتحدة مرشحة هي الأخرى للتراجع نظرا لحالة الطمع السياسي لدى حكام الكيان، فطبيعتهم العدوانية ليست لها حدود، وقد اكتسبوها من خلال تجربة الاحتلال الذي مارس أبشع أساليب الاضطهاد والقمع وانتهاك القرارات الدولية. يضاف إلى ذلك أن الأهمية الاستراتيجية للكيان الإسرائيلي ودورها في حماية مصالح الغربيين خصوصا الولايات المتحدة، تراجعت مع تطور الإمكانات العسكرية من جهة وتوسع نطاق التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط من جهة أخرى، من حيث حضور الأساطيل وبناء القواعد العسكرية.
وقد كشفت الأزمة الأخيرة التي تفجرت بين موسكو وتل أبيب حدود نجاح الدبلوماسية الإسرائيلية، ومن المرجح استمرارها في إثر تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف حول ما يعتبره «جذورا يهودية لأدولف هتلر».
السؤال هنا: لماذا إذن توسع نطاق العلاقات الدبلوماسية بين الكيان ودول العالم خلال العقود الأربعة الاخيرة؟
من المؤكد أن تراجع دور قضية فلسطين في سلم أولويات الحكومات العربية كان له دور في ذلك. فمنذ زيارة السادات للقدس وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد في 1979 تراجع العمل الدبلوماسي العربي الذي كان يتمحور في جانب كبير منه حول قضية فلسطين، فوجدت دول كثيرة ذريعة لمد الجسور مع تل أبيب، خصوصا مع وجود دفع أنجلو- امريكي لذلك.
وفي العامين الأخيرين بلغ التردي المعنوي لدى بعض الحكام العرب ذروته، فلم تكتف دول مثل الإمارات والبحرين بالخروج على الإجماع العربي بعدم الاعتراف بالكيان، بل عمدت للتطبيع معه وكأن شيئا لم يكن.
وتجاوزت حكومة الإمارات ذلك، فقامت بدعم عدد من الدول الافريقية ماليا في مقابل تطبيعها مع «إسرائيل».
وليس غريبا إذا اعتبر الفلسطينيون هذه السياسة «طعنا من الخلف» ممن يفترض أن يكونوا حاملين لواء تحرير فلسطين والدفاع عن أهلها وتعبئة الموقف الدولي ضد الاعتراف بكيان غاصب مستمر في انتهاكاته القرارات الدولية.
ماذا تعني الحقائق المذكورة على الصعيد الاستراتيجي؟ هل هي بداية النهاية لقضية فلسطين؟ وهل أصبح الاحتلال «حقيقة واقعة» كما يروج إعلام المهرولين له؟ ثمة حقائق تؤكد عدم صواب هذه الفرضية.
أولها: أن شعب فلسطين يصر على رفض الاحتلال بدون تردد، سواء الذين يعيشون في الاراضي المحتلة في العام 1948 ام في الضفة الغربية والقطاع ام في الشتات. هذا الإصرار الفلسطيني على التمسك بالحق حال دون قدرة الكيان على إحلال حالة سلام دائمة في بقاع فلسطين كلها. فبعد ثلاثة أرباع القرن ما تزال أجهزته الأمنية مثل الموساد والشين بيت غير قادرة على إنهاء القضية، لذلك تستمر في جرائم القتل والاغتيال والاعتقال بدون توقف.
ثانيها: أن الدعم الخارجي لأهل فلسطين لم يتوقف، المعنوي والسياسي والمادي. فتكاد تجمع منظمات المجتمع المدني الحرة في اغلب بقاع العالم على دعم أهل فلسطين، وما يزال العلم الفلسطيني يرفرف على مكاتب منظمات مدنية وأحزاب سياسية كثيرة.
ثالثها: أن أغلب الدول العربية والإسلامية ما يزال متمسكا بالثوابت الداعمة لفلسطين وشعبها والمناوئة للاحتلال، ولو تم تنسيق مواقف هذه الدول لأصبحت قادرة على تحقيق توافق دولي بمشاركة دول كبرى كالصين وروسيا حول القضية.
رابعها: أن السنة الإلهية لا يمكن إغفالها عند تقييم الأزمات. فالظلم لا يدوم مهما طال.
المصدر: القدس العربي