بعد مرور 74 عاما على النكبة الفلسطينية، لا يزال الصغار يلحون بالسؤال على أجدادهم كيف هي ملامح القرى الفلسطينية التي هجروا منها قسراً؟ ماذا تشبه كوكبا، والمحرقة، ويافا، وعكا، وبرير، ويبنا..؟ أي شارع مروا به يشبه ملامح الأزقة في قراهم المهجرة؟ وكيف هو شكل البيوت والأثاث فيها؟ ماذا عن بئر الماء؟ هل لا يزال قائماً؟ متى سنرجع؟ من هم جيراننا؟
أسئلة كثيرة تقلب المواجع على من هُجروا من بلداتهم قسراً وهم بعمر العاشرة أو أكثر ولا يزالون يحتفظون بذاكرة قوية وأمل كبير بالعودة إلى بيوتهم، يعيشون في المخيمات والمدن الفلسطينية والعربية والأوروبية، لكن لا يشعرون بالراحة والأمان فيها.
ورث الأبناء والأحفاد التعلق بالوطن، وباتوا يحفظون جيداً مكان شجرة الليمون واللوز والبئر في قراهم، ومفتاح البيت القديم لا يزال يحفظه الابن الكبير في صدر بيته داخل برواز زجاجي.
وفي حال مر الأحفاد عن قراهم تسقط دمعة تصاحبها قشعريرة في الجسد كما يصفون، تماما كما حدث مع نور التي وصلت عكا قبل عام، ووقفت أمام النخلة التي حدثتها عنها جدتها، سريعاً هاتفت جدتها دون أن تتمالك نفسها وأخبرتها "ستي أنا قُدّام النخلة اللّي قلتيلي عنها، آه أنا واقفة قُدامها يا ستي (..) أنا في البلاد يا ستي".
تماماً كما حدث مع فايزة حسين -60 عاما- حين وصلت قريتها كوكبة قبل أربعة وعشرين عاما، هنا آثار فرن الطين الذي كانت تخبز فيه جدتها الفطائر، وهذا ما تبقى من جدار البيت الذي نقش ذكريات طفولة والدها، وهناك شجرة الجميز التي بقي طعم ثمارها عالقاً في فم والدها.
تحكي "للرسالة نت" أنها حين وصلت قريتها الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة، شاهدت كل شيء، تماماً كما كان والدها وجدتها يرددان على مسامعها. هذه شجرة الجميز تسلقتها وتذوقت ثمرها، وتلك شجرة السدر اقتطعت غصناً منها وحملته إلى والدها حين كان يقيم في مصر.
بكت كثيراً وهي تتجول في كوكبة، ونقشت اسمها وزوجها وأبنائها على جدار بئر مياه القرية.. فهي تدرك أن عودتهم قريبة، رغم أنها عاشت تتنقل مع عائلتها من مخيم البريج للاجئين إلى الأردن ولبنان ومصر وليبيا والمجر وتركيا لكن العودة باتت قريبة، كما تقول.
تفاصيل النكبة لا تزال تحفظها؛ رغم أنها لم تعشها إلا أن قصص والديها وما عاشوه، فهي لديها شوق غريب، فتتذكر حين تكون وحدها في بيت العائلة في كوكبة، وتتخيل نفسها وهي تتمشى حوله، ولم تنس يوماً حكايات جدها ووالدها عن قريتهم، وتجزم دوماً لأولادها بالعودة حتى بات لديهم يقين بذلك.
وتتذكر أنها حين تمكنت من الحصول على تصريح للصلاة في المسجد الأقصى سنة 2014، مرت عن قريتها وألحت على السائق بالنزول إليها لكن لم يسمح لأحد، فبقيت ومن معها في الباص يعرفون عن أسماء قراهم وما فيها من معالم، وباتت ألسنتهم تتمنى العودة إليها.
وتختم قولها "رغم كل الحروب اللي عشناها، والتهجير والإبعاد، العودة صارت قريبة جداً".
وإلى غزة وتحديداً في شارع الثورة، حيث يسكن الحاج الثمانيني يوسف خلف، المهجر من مدينة يافا، حطت عائلته رحالها حين هجروا قسراً إلى حي الشجاعية وبعد فترة انتقلوا حيث يسكن اليوم.
رغم أن ذاكرته بدأت تتلاشي إلا أنه لم ينس يوماً بلدته، سألته "الرسالة" عن حاله فلم يجب لكنه أشار إلى أحد أبنائه ليتحدث، لما كان الحديث عن يافا، لف ساقيه ضاحكاً وقال "فيها برتقان زاكي"، ثم أضاف " بحرها صافي".
كما عايش النكبة توالت المعارك الحربية على قطاع غزة، وفي كل مرة كان يحكي لأولاده كما أخبروا "الرسالة نت" أنه كان يقول "كل ما ازدادت وحشية المحتل يعني رجعتنا قربت"، وعن معركة سيف القدس التي رحل عن بيته خلالها، وحين انتهت وطلب منه أولاده أن يتجهز ليعودوا لبيتهم الحالي قال "ايش راجعين على يافا".
ويوضح أحمد أن والده حين كان يتابع الأخبار ويتذكر الأحداث يظن أن المقاومة بصواريخها اقتلعت الاحتلال من الأرض.
وعن حلم العودة والتخطيط لما بعده، كتب زاهر البيك عبر صفحته في فيسبوك أنه ينوي الترشح ليكون مختار قريته برير وتحديداً لحارته "المقالدة" أكبر حارات القرية.
يعيش البيك في تركيا، بعدما قضى سنوات عمره في مخيم جباليا للاجئين، ويحلم بالعودة لقريته قريباً كما يكتب، ويقول" أفخر بأن جد والدي كان في عهد الحكم العثماني مختاراً حيث كان العثمانيون ينادونه احتراماً له محمد بيك ثم أصبحنا آل البيك من وقتها، وها أنا الآن أعيش في تركيا ويخاطبني الأتراك الذين لا يعرفون اسم عائلتي احتراماً بـ زاهر بيك".
سبعة عقود وأربع سنوات هي عمر النكبة، توالت الأجيال ولم ينسوا البلاد، فالعودة لم تعد حلماً بل يقيناً.. إن موعدها بات قاب قوسين أو أدنى.