قائد الطوفان قائد الطوفان

فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا (2-2)

لم يكن فرعون من الساذجين ، بل كان فاهماً لفحوى الرسالة التي جاء بها موسى عليه السلام ، ولذا ما إن أخبره موسى فإذا بفرعون يطلب الدليل والآية التي تصدق ما جاء به موسى عليه السلام . قال تعالى : وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ *  قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف :104- 106] إلا أن الملأ من قوم فرعون والمستفيدين من حوله هم الذين أوعزوا لفرعون – مع استعداد فرعون الفطري – لرد ما جاءه من رب العالمين ، وادَّعى فرعون أن الذي جاء به موسى نوع من السحر ، وعنده من السحرة ما يمكن أن يفعلوا مثل ما جاء به موسى عليه السلام . قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الأعراف : 109] وقال فرعون متهكماً "لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ" [الشعراء : 40] وقد صور الله سبحانه وتعالى المشهد تصويراً رائعاً وهو يقص علينا ما كان بين موسى من جهة وبين فرعون والملأ والسحرة من جهة أخرى .

 قال تعالى :" قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ *وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ *قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ *قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ *لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ *قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ *وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ *وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف109 : 127] إذن هو الطغيان والكبرياء ، بعد أن ظهرت الآيات ، وجحدوا بها مع أن أنفسهم قد استيقنتها قال تعالى في شأنهم :"وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل : 14] .

وقد أخذ الله قوم فرعون بالسنين والقحط لعلهم يتضرعون ، ويرجعون إلى ربهم ، ويثوبون إلى رشدهم ، إلا أنهم أغمضوا أعينهم وأصموا آذانهم ، فما نفعتهم الآيات حتى ردوا أمر الله سبحانه وتعالى بالكلية " وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف : 132] فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم إلا أنهم استكبروا وكانوا قوماً مجرمين . قال تعالى:" أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ [الأعراف : 133وقد قاموا بالتوسل إلى موسى ليدع الله سبحانه وتعالى أن يكشف عنه الرجز الذي وقع عليهم ، ولما كشف الله عنهم الرجز ، إذا هم ينكصون على أعقابهم ، ويرجعوا عما أخذوا على أنفسهم من الإيمان بما جاء به موسى عليه السلام . قال تعالى : " وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف : 134] فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الأعراف : 135] وهذه هي نتيجة الكفر ، والاستكبار في الأرض ، فكان الانتقام الإلهي بعد أن أعذر إليهم ربهم سبحانه وتعالى حتى لا يكون لهم حجة .

قال تعالى : "فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف : 136] فهل نجح فرعون فيما ذهب إليه من قتل الأبرياء من أطفال بني إسرائيل ؟! وقد أتاه ما وعده الحق من حيث لم يحتسب ، فها هو الذي يربي موسى في قصره بعد أن ساق الله له التابوت إلى شاطئ النهر قبالة قصره ، وهو الذي حرم عليه المراضع كي يعيده إلى أمه ، ويدفع له أجرة الرضاع ، ويشب موسى في قصر فرعون ، والكل من قوم فرعون يعتقد أن موسى ابن لفرعون ، وينجيه الله من القتل والغم والهم ويؤتيه من القوة والبسطة في العلم والجسم ما لم يؤت أحداً من قومه ، ويجعله يسير إلى بلاد مدين ليسقي للمرأتين ، ويدعوه أبوهما ليجزيه أجر ما سقى لهما ، ويزوجه ابنته على أن يأجره ثماني حجج أو عشراً حسب ما يقدر الله له في حسن المعاملة . ليعود موسى رسولاً يدعو فرعون إلى ربه ، ولم يغب ذلك عن فرعون إذ قد عرف موسى عليه السلام .

"قَالَ : أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء : 18] وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء : 19] إلا أن فرعون لم يرعوٍ ولم يأخذ العبرة من كل ما مر به من آيات ، وظن أن الذي جاء به موسى سحر ، فلم يغن عنه تكبره في الأرض ، وسعيه لقتل أبناء المستضعفين واستحياء نسائهم واستعباد قومه ، حتى استخف قومه فأطاعوه . هذه نتيجة الاستكبار في الأرض والعلو بالفساد والتجبر على العباد . والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

البث المباشر