منذ صغرها، كانت غفران وراسنة تترقب ظهور شهيدة الحقيقة شيرين أبو عاقلة وهي تتنقل بين حواجز مدن الضفة المحتلة والقدس؛ لتنقل الأحداث عبر الكاميرا إلى خديجة بن قنة في استوديو الجزيرة الإخباري لفضح انتهاكات الاحتلال (الإسرائيلي) ضد المدنيين الفلسطينيين.
حلمت وراسنة (31 عاما) أن تكون صحافية يلمع اسمها في سماء الحقيقة، فدرست الصحافة والإعلام في جامعة الخليل وتخرجت عام 2010 لتتنقل طيلة تلك السنوات بين الإذاعات المحلية لنقل الأخبار الميدانية، وبقيت تكافح رغم العثرات التي كانت تعترض حلمها.
حوالي عشر سنوات عملت وراسنة في الميدان، وتعرضت للاعتقال يناير الماضي بحجة تنفيذها عملية طعن، لكن أُفرج عنها بعد ثلاثة شهور، ثم عادت للميدان تتابع الأحداث وتسعى لتحقيق شغفها في عالم الصحافة.
قبل أيام قليلة التحقت بعمل إذاعي جديد، تخرج صباحاً بكل حماس؛ لتطل على مستمعيها عبر أثير إذاعة "دريم" لنقل أخبار الاقتحامات والاعتقالات، لكن رصاصة غادرة أطلقها جندي صهيوني صباح الأربعاء الماضي سبقتها لتخترق صدرها من الجهة اليسرى، وتخرج من الجهة اليمنى؛ فارتقت شهيدة، تماما كقدوتها الصحافية شيرين أبو عاقلة التي قتلها قناص (إسرائيلي) قبل أكثر من ثلاثة أسابيع.
على مدخل مخيم العروب في الخليل، كانت غفران على موعد مع الشهادة، حين خرجت من بيتها مودعة والدتها.
بعد دقائق قليلة، بدأت تسمع والدتها الأخبار عن إصابة شابة على مدخل مخيم العروب، لم تتوقع أنها ابنتها، في البداية ظنت أن ابنتها مصابة ليس إلا، لكن الفاجعة -كما تقول- "عندما جاءني خبر ابنتي الشهيدة".
هرعت الأم إلى المستشفى، لكن صدمت حين رأتها مسجاة على سرير المستشفى والدماء تغطيها، فالإصابة كانت متعمدة.
من بين جموع الناس، تحدثت والدتها التي لم تستوعب المشهد: "بنتي درست صحافة لتصير متل شيرين أبو عاقلة وخديجة بن قنة (..) بنتي لحقت شيرين وصارت شهيدة متلها".
وتابعت بحرقة: "تسلمت عملا جديدا في إذاعة دريم وكانت متحمسة كثيرا، وبقيت تسعى لتحصل على فرصة عمل في التلفزيون لتصبح مثل أبو عاقلة".
نظرات الأم لمن حولها تحكي أن ابنتها ستعود من عملها بعد الظهيرة، لن يدوم غيابها طويلا، متجاهلة بكاء أبنائها على شقيقتهم غفران وهي تردد "بنتي راجعة البيت".
ومع الساعة الأولى لانتشار خبر استشهاد غفران، ظهر الجندي (الإسرائيلي) معترفاً بجريمته المتعمدة، وما له ألا يفعل وهو يدرك أن القانون الدولي والمؤسسات الحقوقية وحكومته لن يعاقبوه.
ولم يكتف الاحتلال بجريمته العنصرية، بل لاحق غفران في جنازتها ومنع إدخال جثمانها من مدخل مخيم العروب، تماما كما فعل في جنازة شيرين أبو عاقلة حين حاول الجنود منع إدخالها لمدينتها القدس وحاولوا إسقاط نعشها.
تمكن المشيعون من حمل نعش شهيدة الحقيقة غفران من أمام مشفى الأهلي في الخليل، إلى مخيم العروب، حيث أُلقيت عليها نظرة الوداع الأخيرة قبل أداء صلاة الجنازة، ومواراتها الثرى في مقبرة المخيم، رغم إغلاق البوابة الحديدية للمخيم وإطلاق قنابل الغاز والصوت.
وردد المشيعون هتافات تندد بجرائم الاحتلال وضرورة الثأر للشهيدة، مطالبين المقاومة بالرد على عدوان الاحتلال على شعبنا وانتهاكاته المتواصلة.
ليست المرة الأولى التي يتعمد الاحتلال (الإسرائيلي) ملاحقة الصحافيين وقتلهم، فهو لم يترك وسيلة ردع إلا استعملها لقمعهم ومنعهم من نقل الحقيقة، وعرقلة عملهم. وفق الحركة الإعلامية الفلسطينية، فقد تجاوز عدد الشهداء الصحافيين الخمسين منذ عام 2000.
وحين يكون الحدث في أي مدينة أو قرية فلسطينية، يستفرد جنود الاحتلال -بتغطية من المستوى السياسي (الإسرائيلي)- بالصحفيين الفلسطينيين، عبر وضع القيود والعراقيل التي تعيق وصولهم إلى الحقيقة، ومنعهم من التغطية في مكان اشتعال الأحداث.