في أول تعليق بعد إعلان إثيوبيا عزمها بدء عملية الملء الثالث لخزان سد النهضة في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول المقبلين، واحتمال تضرر دولتي المصب مصر والسودان، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن بلاده لم تدخل في صراع من أجل زيادة حصتها من مياه النيل.
وخلال حضوره فعاليات المعرض والمؤتمر الطبي الأفريقي الأول في القاهرة، الأحد، قال السيسي موجها خطابه "للأشقاء" الأفارقة، إن "حصة مصر 55 مليار متر مكعب، ولم تتغير على مدار السنين الماضية، منذ أن كان عدد سكانها ما بين 3 إلى 4 ملايين نسمة وحتى الآن، ولم ندخل في صراع مع أشقائنا الأفارقة من أجل زيادة هذه الحصة".
وأضاف السيسي "لكن عمِلنا على تعظيم مواردنا (من المياه) والحفاظ على كل قطرة مياه، دون مبالغة، ولا أقول هذا الكلام لأسباب سياسية، إنما من أجل القول إن التحدي هو فرصة وليس عائقا للتغلب عليه؛ لذا قمنا بعمل برامج لمعالجة المياه معالجة ثلاثية متطورة".
وأشار إلى أن الجهود التي بذلت في هذا المجال هي "من أجل أن نوفر مياها للمواطنين مطابقة لمعايير منظمة الصحة العالمية، والاستفادة من هذه المياه مما يجعل مصر أول أو ثاني دولة في العالم تستفيد من معالجة المياه وتحليتها لصالح شعبها".
ورأى مراقبون ومحللون أن تصريحات السيسي ردا على إعلان أديس أبابا بدء عملية الملء الثالث، تختلف عن تلك التي حذر فيها السيسي سابقا من المساس بحقوق مصر المائية، وأن كل الخيارات مطروحة إذا أخذت قطرة واحدة من حصة مصر في مياه النيل، وسيعتبر ذلك تجاوزا للخطوط الحمراء في مصر وسيقابله رد مزلزل يؤدي لزعزعة استقرار المنطقة بكاملها.
وكانت تلك الرسالة التحذيرية هي الأقوى من بين سلسلة من التصريحات بشأن أزمة سد النهضة، في أعقاب إعلان الخارجية المصرية، في أبريل/ نيسان 2021، أن اجتماعات كينشاسا في الكونغو الديمقراطية لم تحقق تقدما، ولم تفض إلى اتفاق بشأن إعادة إطلاق مفاوضات سد النهضة.
تحذيرات نادرة من إثيوبيا
يأتي ذلك، بعد تصريح نادر الأسبوع الماضي من الجانب الإثيوبي حول تداعيات سد النهضة على مصر والسودان، حيث أشار مدير سد النهضة "كيفلي هورو" إلى مخاوف مصر والسودان من التأثيرات السلبية لعمليات الملء التي من المتوقع أن تبدأ مرحلتها الثالثة بعد أسابيع.
وأقر مدير سد النهضة باحتمال تأثر مصر والسودان بعمليات الملء، قائلا "قد تكون هناك آثار جانبية، لا نستطيع إنكار ذلك، لكنه ليس بالضرر الحقيقي، هذه الآثار الجانبية تكون خلال فترات الملء، وما عدا ذلك في أوقات التشغيل الاعتيادية ما يدخل (من مياه) هو ذاته ما يخرج".
وبحسب هورو فإن أقصى ما يمكن أن تقدمه حكومة بلاده هو القيام "بتنفيذ المشروع والملء على مراحل لمراعاة شؤون الدول الأخرى (…) هذه هي الضمانات المتوفرة لدينا"، معلنا في الوقت ذاته البدء في تجربة التوربين الثاني لإنتاج الكهرباء خلال أسابيع.
ردود مصرية
واعتبرت مواقع إخبارية مصرية محلية أن تصريحات مدير مشروع سد النهضة عن إمكانية تأثر مصر والسودان بعمليات ملء السد للمرة الثالثة، مثيرة للقلق، حيث إنها المرة الأولى التي يقر فيها مسؤول إثيوبي بذلك منذ بدء العمل بالمشروع في 2011.
في حين اعتبر أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة عباس شراقي أن تصريحات هورو بشأن "احتمال تضرر مصر والسودان من عملية الملء" غير دبلوماسية وغير مسؤولة.
وقال شراقي في لقاء مع قناة الجزيرة مباشر إن مصر تتحمل خسائر بمليارات الدولارات بسبب عمليات الملء التي قامت بها إثيوبيا بشكل أحادي، مشيرا إلى تحديد المساحات التي تتم زراعتها ببعض المحاصيل، مثل الأرز، خلال الأعوام الماضية، وكذلك إنفاق مئات الملايين من الدولارات على مشروعات لتحلية مياه البحر للتخفيف من آثار الملء المنفرد من قبل إثيوبيا.
وتصر أديس أبابا على الملء الثالث لخزان السد حتى من دون اتفاق، في حين تتمسك القاهرة والخرطوم بالتوصل إلى اتفاق يحافظ على منشآتهما المائية ويضمن استمرار تدفق حصتيهما السنوية من مياه نهر النيل، البالغة 55.5 مليار متر مكعب لمصر-يستحوذ القطاع الزراعي على معظمها- و18.5 مليارا للسودان.
من الخيار العسكري إلى تحلية المياه
وأثارت تصريحات السيسي بشأن التركيز على تعظيم موارد المياه دون التطرق إلى خيارات أخرى، تساؤلات حول استسلام مصر لإجراءات إثيوبيا التي تصفها بالأحادية، أو أنها أحد تلك الخيارات المشار إليها ومسابقة الزمن في توفير المياه.
في تحليله الفني، يرى خبير السدود المصري (أستاذ هندسة السدود بماليزيا) محمد حافظ، أنه "قريبا جدا مع امتلاء سد السرج ستفقد مصر خيارها العسكري للأبد، ولهذا فتصريحات السيسي ليست أكثر من تمهيد العقل الجمعي للدولة المصرية بإغلاق ملف (حصة مصر) والانتقال لمرحلة تحلية المياه ومعالجتها بشكل كبير، أي العيش في صحراء شاسعة بأقل قدر ممكن من المياه العذبة"، بحسب وصفه.
وأوضح حافظ، في تصريح للجزيرة نت، أن رد السيسي على التصريحات الإثيوبية الأخيرة رغم التلميح إلى احتمال تضرر دولتي المصب، هو بمثابة الإقرار بالاستسلام للأمر الواقع، والقول إن مصر ستصبح من أوائل دول العالم في تحلية ومعالجة المياه هو محاولة لتصوير الهزيمة على أنها انتصار، وفق تعبيره.
وذهب حافظ إلى القول إن أكثر المتضررين هي مصر ولا يشاركها السودان حجم الضرر؛ لأنه لا يعتمد بشكل رئيس على مياه النيل الأزرق، كما هو الحال في مصر التي تعتمد بنسبة 97% على نهر النيل لتوفير المياه، ولا تحتاج إلى إنفاق مليارات الدولارات لتحلية المياه أو معالجتها.
وأشار إلى أن تكلفة هذه المشروعات ستكون على حساب الموازنة العامة للدولة ومن جيب المواطن ومن حقوقه الأساسية.
أكبر محطات صرف وتحلية بالعالم
وتٌقدر تكلفة "الخطة القومية للمياه" في مصر والتي تستمر حتى 2037 بنحو 50 مليار دولار، وذلك لمواجهة نقص المياه في البلاد، بحسب تصريحات وزير الري محمد عبد العاطي خلال مؤتمر أسبوع المياه الذي عُقد بالعاصمة اللبنانية بيروت في أبريل/نيسان 2019.
وتحتاج البنية التحتية للمياه استثمارات تقدر بـ 45 مليار دولار إضافية عن الاستثمارات في المشروعات الأساسية حاليا، وفق تقرير صدر في 2018 عن البنك الدولي حول البنية التحتية في مصر.
ويعتزم الصندوق السيادي المصري طرح 5 محطات تحلية مياه للشراكة مع القطاع الخاص، لتحلية 3 ملايين متر مكعب يوميا، بتكلفة استثمارية تبلغ 3 مليارات دولار لتنويع مصادر المياه، وفق كريم بدر المدير التنفيذي لصندوق مصر الفرعي للمرافق والبنية التحتية التابع لصندوق مصر السيادي.
وفي سبتمبر/أيلول 2021 دخلت مصر موسوعة "غينيس" بـ 3 أرقام قياسية بخصوص إنشاء أكبر محطة تحلية للمياه على مستوى العالم، وأكبر محطة معالجة حمئة (المواد المترسبة الناتجة من معالجة مياه الصرف الصحي)، وأكبر محطة لإنتاج الأوزون، وفق وكالة أنباء الشرق الأوسط (رسمية).
وكان السيسي افتتح في الشهر ذاته مشروع محطة معالجة مياه صرف بحر البقر شرق مدينة بورسعيد، بتكلفة بلغت 18 مليار جنيه (1.14 مليار دولار حينها)، بطاقة إنتاجية قدرها 5.6 ملايين متر مكعب يوميًا، لتصبح أكبر محطة لمعالجة المياه ثلاثيا في العالم.
ما توفره مصر من إنشاء تلك المشروعات، وفق نادر نور الدين، أستاذ الأراضي والمياه بكلية الزراعة جامعة القاهرة كالآتي: تحلية مليار متر مكعب من مياه البحر، وإنتاج 5 مليارات من المياه المعالجة من المصارف.
"صندوق المياه" الإثيوبي
في تقديره، يرى الأكاديمي السوداني والباحث في الشأن الأفريقي محمد أحمد ضوينا، أن "سد النهضة أصبح أمرا واقعيا، ولولا بعض القصور الفني لاكتمل الملء في كل مراحله، وواضح أن دول المصب كانت تعلم مسبقا أنها لا تستطيع فعل شيء لا من ناحية إيقاف العمل في السد، أو حتى إلزام إثيوبيا بتوقيع اتفاق يقيدها بالتنسيق المسبق مستقبلا".
وأضاف ضوينا، في حديثه للجزيرة نت، أنه "منذ بدء التفاوض بين دولة المنبع ودولتي المصب والاعتراف بالسد عام 2015 وحتى اليوم، اتسمت مواقف مصر والسودان بالرخاوة والهشاشة في التعاطي مع هذا الملف، كأنما المفاوضات تحصيل حاصل، وذلك أمام الموقف الثابت لإثيوبيا، فلم نشهد أي توقف أو تراجع عن مواصفات وبناء السد إلا لنقص التمويل أو أعطال فنية".
وبشأن سر صلابة الموقف الإثيوبي، أوضح ضوينا أن إثيوبيا استمدت قوتها وإصرارها من موقفها التفاوضي المدعوم بمخطط إقناعي متكامل يضع البلدين أمام الخضوع والاستسلام في النهاية، ومن هذه المواقف التفاوضية:
دعم وتأييد المجتمع الدولي إما لمصالحه أو لحجية إثيوبيا المبنية على توقيع اتفاق عام 2015 بين الدول الثلاث.
تأييد دول حوض النيل التسعة ورغبتها في الاستفادة من كهرباء السد بأسعار مناسبة، إلى جانب رغبتها في إنشاء سدود مستقبلا على النيل.
ظلت إثيوبيا في لقاءاتها السرية مع دول المصب تتبع سياسة العصا والجزرة، وذلك برفع ورقة إعادة تقسيم مياه النيل وإلغاء اتفاق 1929م وتفعيل اتفاقية عنتيبي.
قناعة إثيوبيا بعدم قدرة مصر والسودان على استخدام القوة العسكرية وتحالفها مع دول كبرى تعهدت بالحماية، فضلا عن انحياز دول القرن الأفريقي لها.
الموقف الداخلي الإثيوبي والالتزام الأخلاقي أمام الشعب الذي يرى في السد مشروع القرن الاقتصادي.
الشركات الممولة للسد هي شركات عالمية لها نفوذ في السوق العالمية وتتبع لدول نافذة إقليميا ودوليا.
واعتبر أنه بسبب ذلك "أصبحنا أمام سد مكتمل واستسلام كامل من دول المصب"، ولكن الكارثة المتوقعة هي أن إثيوبيا تزمع إنشاء سدود أخرى على مجرى النيل الأزرق في المستقبل، وهذا الذي جعل مصر تفكر في بدائل لمياه النيل سواء بتحلية البحر الأحمر أو إحياء قناة جونقلي بجنوب السودان التخزينية، أو تكون أسيرة في يد إثيوبيا تتحكم فيها مثل تحكم صندوق النقد الدولي في الدول الفقيرة.
المصدر: الجزيرة