بقلم: رشا فرحات
متثاقل الخطوات يخطو أمام النافذة، يضع نظارة قراءته جانباً ويحبو بمشيته الضعيفة، مترنحاً من كثرة الآلام، التي كدستها سنوات الانتظار الطويلة. لم تتغير عادته، يستيقظ قبل الفجر بساعتين، ويظل يقرأ حتى يأتي موعد صلواته، فيتوضأ ويدعو دعاءاً مريراً، والى جانبه رفيقته في ذات الطريق، تؤمن وتؤمن، وتهطل دموعها في ذات الموعد كل يوم.
منذ عشرين سنة مضت لم تختلف عادته تلك، فما أن ينهي صلاته حتى يقف أمام النافذة لمراقبة خطوط فجر الصباح، تشعره هذه الصورة بالانتشاء، يرقب مشاعر النصر وهو يكابد الهزيمة، من ضوء تلك البقعة التي تخترق السحب أمام ناظريه، لكنه يرقب منذ سنوات، ولم تتحقق مشاعره المتلهفة إلى النصر، ولو كذباً.
ذهبت هي لتعد لهما قهوتهما الصباحية، وما زال صوت تسبيحها يعلو في المكان، يخترق أذنيه، يؤلمه، يرجوه بلهفة أن يتحقق، ينصت في الفضاء، يفكر فيما سمعه بالأمس عن صفقة للتبادل، لقد اخبره وحيده حسام انه احد الأسماء المندرجة ضمن الصفقة. يبتسم، يرتفع منسوب الأمل في صدره، انه دوما يقف في المنتصف، بينه وبين ابنه البعيد خلف تلك الأعمدة الحديدية الصدئة، وبدونه لا يحيا ولا ينتظر.
يتلفت إلى أم حسام، وهي تصب قهوتهما، يتعجب صمتها الدائم، فهي لا تتحدث إلا لتسبح، وتتحرك كما وأنها في عالم مغاير، تعد الفطور الصباحي كل يوم، وتقسم الوجبة كما وأن حسام بيننا، فتضع نصيبه من الطعام في كل وجبه، وترقبه طوال تناولها لطعامها، محدقة في الكرسي الفارغ من صاحبه، وكأنها تراه أمام عينيها، ثم تبتسم فرحة بخيالاتها.
تذهب إلى السوق وتشتري حاجيات لا تريدها، لكنها تعتقد إنها مهمة لحسام ، تنظر إلى وجهه بنظرة مواساتها التي حفظها وتعود عليها ثم تردد: سيخرج، وسيأتي لتناول طعام الغداء غداً، وتسأله ببرود غريب عن سبب حزنه، بات يخاف نظراتها، وكأنها تخبئه في غرفة من الغرف، فتخرجه حينما يكون خارج المنزل، لتستمتع باحتضانه وحدها، يحدث نفسه: فمن أين أتت بكل هذه القوة، ومن أين جاءت بكل هذا الصبر.
سرق فنجانه على عجل، وعاد إلى نافذته، الشمس بدأت تتكور في عرض السماء، تحبك مؤامراتها الظهرية على رؤؤس المارة الذين تزاحموا فجأة ولكلٍ وجهة يسير إليها، يحدثها بحسرة: لو خرج حسام منذ عشر سنوات يا أم حسام، لأصبح مهندساً الآن، أو طبيبا ، ألا تذكرين، كيف كان مجتهداً وذكياً، بل كان اذكي أبناء الحي، عندما يخرج حتماً سيتقلد منصباً رفيعاً.
ينظر إلى الخلف، لا يجدها، يبحث عنها، في بقايا غرفة حسام ذهبت لتنظف، فربما يأتي اليوم أو غداً على ابعد تقدير، يضحك منها، الغرفة لا تحتاج إلى تنظيف، ففي كل يوم تنظفها أم حسام مرتين، منذ عشرين عاماً، تخرج أم حسام ما في الخزانة على عجل، دون أن ترد عليه، ترص أخر ما اشترت لابنها حسام، كنزه صوفية ثقيلة، بيجاما قطنية كانت قد أحضرتها عندما ذهبت للحج قبل خمسة أعوام، ملا بس داخليه.. حذاء ايطالي الصنع، شفرات حلاقة، كتب قديمة لا تعرف قراءتها لكنها وجدتها تباع مع احد المارة حينما سافرت إلى مصر قبل عامين.
انتهت، ابتسمت راضية عن تجهيزاتها، أغلقت باب الغرفة، وذهبت لتنتظر برفقة شريكها الذي تركته يستمع إلى الراديو ليعرف أخر الأخبار، الذي فاجأها بعودته إلى قراءته، عادته كلما خبأ ضوء الأمل في صدره، نظرت جاحظة إلى دموعه المتساقطة فوق كتابه، نظرت إلى بقعة الضوء القادمة من ضوء الشمس المتسلل من النافذة، عادت إلى غرفة وحيدها حيث ينتظرها الأمل، أعادت كل الأغراض إلى الخزانة مرة أخرى.. ثم بدأت التسبيح والدعاء.