أصعب الكتابات، هي الكتابة التي تضطر لاختصار مئات الصفحات في مقالة واحدة. والحديث في الذكرى الخمسين لاغتيال الأديب المناضل الفلسطيني غسان كنفاني ليس سهلا، فهو أحد أكثر الكُتّاب كثافة بالأحداث، أو كأن حياته عدة حيوات تجري في حياة واحدة. هو ليس شاعرا، لكنه أول من سلط الضوء على شعراء المقاومة تحت الاحتلال، وأول من كتب عنهم وعرض نماذج أشعارهم في مقالاته ثم في كتبه، رغم الإغلاق والتعتيم الذي مارسه الاحتلال على شعبنا في الداخل.
عاش حياة قصيرة، ولكنها عريضة، متعددة واسعة متنوعة. عاش 36 سنة، مضى فيها بكل جهده باتجاه هدفه الأكبر، وهو تحرير فلسطين، كان مالئ الثورة وشاغل اللاجئين، كان خلايا ثورية وطنية إبداعية متنقلة. كان في الوقت نفسه، يدرس، ويحاضر قوميا وفلسطينيا، ويكتب للمجلة، ويدقّق طبعاتها، ويشرف على المسابقات الثقافية، ويكتب الرواية والقصة والمقالة والأبحاث، ويرسم (وهذا ما لا يعرفه الكثيرون)، وينطق باسم الجبهة الشعبية، ويزور مخيمات اللاجئين، ومعسكرات الفدائيين، فيكتشف موهبة ناجي العلي في عين الحلوة، ويكتب رواية عن الثوار في المعسكرات أو على الحدود، ويستمع لقصص اللاجئين فيصدرها في قصص قصيرة، كأنه كان يعلم أنه سيموت باكرا، وعليه أن ينجز مهمته.
كان اغتياله نتيجة طبيعية لحياة مليئة بالثورة، فقد كان هذا متوقعا في كل لحظة. وكما كتب عنه أنيس صايغ "لقد طلب الاستشهاد بنفسه. ولقد عمل له. ولقد سعى إليه. وذلك لأنه آمن به. آمن بأن العمل لفلسطين لا حدود له. وأن المشاركة في حرب التحرير لا تكون من بعيد، وأن الكتابة الثورية (وهي مهنته وهوايته وقناعته ولذّته ومعاناته في آن واحد)، لا معنى ولا أثر لها إذا لم تتجسّد بالممارسة والسلوك اليومي، وأن الثورة لا تتحمّل المواقف الوسط، ولا المهادنة، ولا التأجيل، ولا الاستراحة، وأن الكلمة الثائرة لا تعرف المواربة، ولا الدبلوماسية، ولا التلفيق، ولا الاصطناع". لم يكن يليق بأمثاله الموت العادي، أرادوا بقتله قتل الروح الثورية والكلمة الإبداعية والوطن الكائن في جسد.
نَحَتَ كنفاني أشهر الأقوال الثورية في القضية الفلسطينية:
ـ بِالدَّم نكتبُ لِفلسطين.
ـ لا تَمُتْ قَبلَ أنْ تكونَ نِدّا.
ـ لِماذا لم يَدُقّوا جُدرانَ الخَزّان.
ـ إذا كُنّا مُدافِعِينَ فاشِلينَ عَنِ القَضِيّة.. فَالأَجْدَرُ بِنا أَنْ نُغَيِّرَ المُدافِعِينَ، لا أَنْ نُغَيِّرَ القَضِيَّة.
ـ يَسرِقونَ رَغيفَكَ ثُمَّ يُعطونَك مِنهُ كسرةَ خُبزٍ، ثُمَّ يَأمُرونَكَ أن تَشْكُرَهُم عَلى كَرَمِهِم.. يَا لِوَقاحَتِهِم!
ـ خِيمِة عَن خِيمِة تِفرِق.
كما باتت عناوين كتبه تراثا محفوظا في تاريخ القضية الفلسطينية (انظر الفقرة الأخيرة من المقال).
حياته وترجمته
وُلد غسان كنفاني عام 1936 في مدينة عكا، وتلقى دراسته الابتدائية في مدرسة الفرير في مدينة يافا، حيث كان يعمل والده محاميا هناك. وبعد سقوط عكا لجأت عائلته إلى لبنان، وتحديدا مدينة صيدا (...وحين وصلنا إلى صيدا في العصر صِرنا لاجئين). ثم انتقلت العائلة إلى سوريا. وفي دمشق كان غسان عاملا في مطبعة وموزع صحف في الوقت الذي استمرَّ في تحصيله العلمي، حتى حصل على الشهادة الثانوية، وعمل في مدارس الأونروا. ثم سافر إلى الكويت عام 1955، ومن هناك استوحى روايته "رجال في الشمس".
عاد كنفاني من الكويت عام 1960 إلى بيروت، وانضمَّ إلى فريق عمل مجلة "الحرية" الناطقة باسم حركة القوميين العرب، فبرزَ دوره وتميَّز في عمله، حتى طلبته الصحف والدوريات العربية للعمل فيها، فترأس تحرير جريدة "المحرِّر" اليومية، وملحقها الأسبوعي "فلسطين"، ثم انتقل إلى جريدة "الأنوار" كرئيس للتحرير أيضا (1967 ـ 1969)، وكان يكتب فيها عمودا يوميا عن القضية الفلسطينية.
في عام 1969 ترأس تحرير مجلة الهدف التي أصدرتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي شارك بتأسيسها وكتابة البيان السياسي لها (برنامج آب 1969). وانتُخب عضوا في المكتب السياسي للجبهة، وناطقا رسميا باسمها.
أُصيب بالسكري مبكرا، وأدخل المستشفى أكثر من مرة بسبب الإجهاد والإعياء اللذين يتأثر بهما مريض السكري، لكنه استمر عاملا بكل طاقته في سبيل قضيته. كان يمكنه أن يستمر في عمله بالخليج، لكنه آثر العودة إلى حدود فلسطين ليتابع نضاله منها. كتب عن تجارب اللاجئين والمخيم والبندقية والهجرة والعودة والاحتلال والشعر والأدب.
بقيت فلسطين هي الهاجس الدائم له، في كل ما كتب ورسم، حتى اغتالته يد الموساد في 8 تموز (يوليو) 1972 مع ابنة أخته لميس، بتفخيخ سيارته قرب بيته في منطقة الحازمية في بيروت.
الجوائز والتكريم
نال كنفاني عام 1966 جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان عن رواية (ما تبقى لكم).
نال جائزة منظمة الصحفيين العالمية 1974، وجائزة اللوتس 1975.
مُنح اسمُه وسام القدس للثقافة والفنون 1990.
نصٌّ يختصر مؤلفاته
وقفت عند ضريح الشهيد غسان كنفاني في بيروت في ذكرى اغتياله الآثم (٨ تموز ١٩٧٢)، وسألته "عن الرجال والبنادق"، في "عالم ليس لنا" بعدما لم نعد أقوياء، وماذا حصل مع "عائد إلى حيفا"، في "أرض البرتقال الحزين" بعدما باعوا صفد وحيفا، وبعد "سقوط الجليل".
فقال لي:
لا تكونوا مثل "العبيد" أيها "الهاربون" مثل "رجال في الشمس"، ودُقّوا جدران الخزان و"الباب"، إذ "ما تبقى لكم" بعد "اللوتس الأحمر الميت" و"برقوق نيسان" سوى "المدفع" والمقاومة، واسألوا "أم سعد" وهي ستخبركم أنه "خيمة عن خيمة بتفرق".
فامضوا مثل "العاشق" ولا تسألوا بعد "موت سرير ١٢": "من قتل ليلى الحايك"؟ بل احملوا "القنديل الصغير" فوق "جسر إلى الأبد"، فهناك ستجدون "العروس" فلسطين.