حصل نزيه الأيوبي (1944-1995) على درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1967 قبل أن يذهب ليستكمل دراسته بالخارج ويحصل على درجة الدكتوراة من جامعة أوكسفورد عام 1975، وتعرض تلك التواريخ المناخ السياسي التفاعلي الذي نشأ فيه الرجل الذي كتب عن الدولة العربية كما لم يكتب عنها أحد، ومات وهو في أوج عطاءه الفكري وإسهامه الأكاديمي.
شغل الأيوبي منصب الباحث في سياسات ومدير برنامج الشرق الأوسط في جامعة إكستر البريطانية عام 1983، وكان هذا وقت مثير لأبحاث الشرق الأوسط حيث تأسس مركز دراسات الخليج العربي عام 1979 بالجامعة التي كانت تكتسب أهمية كبرى بالنسبة لجودة مواردها ومنحها الدراسية.
وتحت إشراف الأيوبي، أصبح برنامج الشرق الأوسط أحد أكثر برامج الدراسات العليا نجاحًا داخل أوروبا، الذي شملت اهتماماته البحثية السياسة المصرية والاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية والسياسة الدولية للإسلام، والتي سيظهر انعكاساتها في منتج الأيوبي كاملًا: (الدولة المركزية في مص، الإسلام السياسي، تضخيم الدولة العربية، العرب ومشكلة الدولة، استراتيجيات التنمية في العالم الثالث) وغيرها من الأعمال التي نشرها بالإنجليزية ولم تترجم بالعربية حتى الآن.
"دول ضارية"
في كتابه الضخم "تضخيم الدولة العربية" حاول الأيوبي أن يضع مفهوما جديدا للدولة العربية يمكننا من خلاله أن نرى بوضوح طبيعة العلاقة بينها وبين شعبها ومؤسساتها والمجتمع المدني فيها، ولذلك قدم إسهامه المصطلحي الهام في وصف الدولة العربية حين وصفها بأنها "دولة ضارية".
يرى الأيوبي أن الدولة العربية بفعل طبيعتها الغنائمية، هي دولة إقصائية يحتكر فيها من يصل إلى سدة الحكم جميع المنافع، بما يجعل علاقتها مع مجتمعها تتسم بقدر من الشراسة والتسيد، ما يجعلها أشبه بالعلاقة الضارية الشرسة، رغم أنها دولة ضعيفة، ويصف الأيوبي هذا الأمر قائلًا: "إن معظم الدول العربية دول "صلبة"، والكثير منها دول "ضارية"، وقلة قليلة هي دول "قوية" على الرغم من أنها تمتلك بيروقراطيات ضخمة وجيوشًا قوية وسجونًا قاسية، إلا أنها ضعيفة على نحو يدعو للأسى حينما تواجه مسائل من قبيل جباية الضرائب، أو كسب الحروب، أو تشكيل قوة هيمنة فعلًا، أو ايدلوجيا تستطيع أن تمضي بالدولة إلى أبعد من المستوى القسري والتشاركي ومنه إلى الميدان المناقبي والفكري".
حتمية البيروقراطيات المترهلة
كما يرى الأيوبي في "البيروقراطية" أنها السمة الأساسية في بناء الدولة العربية ما بعد الاستعمار، فالدولة العربية التقليدية الاشتراكية التي عاصرها الأيوبي على حد سواء في النمو الاقتصادي والتنمية توسعت توسعًا بيروقراطيًا مثقلًا، أدى إلى إشكاليات طويلة في بناء الدولة، فما أن تغدو البيروقراطية أوسع مما ينبغي، فإنها لا تقتصر على امتصاص الموارد الشحيحة التي يمكن توجيهها بطريقة أفضل باتجاه نشاطات أكثر إنتاجية، بل هي تشرع كذلك لأن تصبح حجر عثرة يزاحم القطاع الخاص، ويدفع المجتمع المدني نحو الهامش.
يرى الأيوبي أن الدول العربية تفضل الحفاظ على الوضع البيروقراطي من خلال التضخم الاقتصادي، وبالتالي تضخم بيروقراطي يفيد في مجال سيطرة الحكومات على رعاياها، حيث أن حكام الدولة العربية كما يدعي الأيوبي يجدون في البيروقراطية الآلية بتراتيبها المفصلة وسلسلة القيادة المتشددة فيها أداة ثمينة للسيطرة، فهم يشعرون بأن الاختلال الوظيفي للبيروقراطية يمكن أن تنتقد، ولكن لا يجب أن تمس مطلقًا.
في غياب الهيمنة الأيديولوجية
إن السلطة في الدولة العربية تعمل كما يراها الأيوبي مستعينًا بتفسير غرامشوي عن هيمنة الدولة، من خلال لجوئها إلى القوة الناعمة (أجهزة إعلام، ومثقفين) لفرض سيطرتها، فتصبح الدولة المربية، وبالتالي لا تلجأ للقوة العارية في كثير من الأحيان، ومن هنا تبرز للساحة التاريخية شخصية الحاكم الأب التي رآها الأيوبي تتجسد في شخصين على الأخص هما (جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة) وعندما يقتنع أغلب الشعب بالدولة تصبح قوية، ومتكاملة، بسبب سيطرتها المادية والفكرية والأمنية، وقلة من الدول العربية، هي دول قوية.
يرى الأيوبي أن الدولة العربية لم تنم من رحم تاريخها الاجتماعي- الاقتصادي، أو تقاليدها الثقافية أو الفكرية الخاصة بها، وهي دولة ضارية لأنها تفتقر إلى قوة البنية التحتية المتضمنة أدوات وعلاقات الإنتاج والتي تمكن الدولة من النفاذ إلى المجتمع بشكل فعال، كما أنها تفتقر إلى الهيمنة الأيدلوجية بالمعني الغرامشي، والتي تجعلها قادرة على تشكيل كتلة اجتماعية تتقبل شرعية الطبقة الحاكمة.
ويتعرض الأيوبي أيضًا إلى حالة المثقف في الدولة العربية، حيث يرى أن نشوء أنموذج الدولة المتضخمة الريعية أدى لاحتواء المثقف في سياق احتواء الدولة للمجتمع، وتحول المثقف من صيغة المثقف الأيديولوجي الحزبي، إلى أن يكون مثقفًا دولتيًا، وهذا الاحتواء من الحزب إلى الدولة، كان عاملًا جوهريًا فيما بعد في تحديد صورة فهم المثقف لوظيفته، حيث بقي بعيدًا عن فكرة المثقف النقدي في النهاية.
مع سيد قطب في سجنه
بعين الباحث والناقد، عاصر الأيوبي ظاهرة بروز الإسلام السياسي وانهيار الدولة القومية، وخلافة الأيدلوجية الإسلامية للأيدلوجية القومية خاصًة في أعقاب هزيمة حزيران 1967م، ومن هذا المنطلق، قدم الأيوبي إسهامه الهام "الإسلام السياسي في الوطن العربي" ليحلل أبعاد تلك الظاهرة، وديناميات عملها، وروافدها ومآلاتها، وتحليل خطابها الأيدولوجي، بموضوعية تبتعد عن الصراع الصاخب الدموي الذي كان يدور بينها وبين الحكومات في الساحات والميادين والسجون.
يرى الأيوبي أن اللحظة المحورية في تاريخ الإسلام السياسي كفاعل في السياسة العربية كانت مع ظهور شخصية سيد قطب، التي برع في تحليلها وتحليل خطابها الذي خرج من مخاض التعذيب في السجون والمعتقلات، فقد كان قطب وقادة الجماعة السجناء ينسجون في ضوء عزلتهم مشروعًا بديلًا من الناصرية مضادًا لها، كما يقول الأيوبي في كتابه: "فرضت تاريخية المشروع الناصري إعادة تنظيم السلطة أي بناء الدولة، أما الخطاب القطبي-سيد قطب- قام على عصبية الانتماء للمشروع الإلهي، فأيديولوجية ذلك الخطاب هي سياسية بالأساس تتصل بمجالات الفكر والحركة على صعيد الدولة والمجتمع وتوجه صوبهما، على النحو الذي يقطع جذريًا مع الواقع القائم ويؤكد على عدم الانشغال بإعداد البدائل المجتمعية لأن المطلوب هو إلغاء الواقع الراهن، وعندئذ تظهر البدائل والحلول الملائمة، ولا يكون إلغاء الواقع الاجتماعي الراهن إلا بمواجهة الدولة ومحاربتها".
لقد قدم الأيوبي في كتابه نبوءة بفشل حركات الإسلام السياسي، وهو الذي تحقق بعد وصولها للسلطة فعلًا بعد موت الأيوبي بأكثر من عشرين سنة، بسبب عطب أساسي في مفهوم الحاكمية، فهي تعبر عن رفض النظام القائم من جذوره، ورفض شرعية والقيم الموجهة التي يقوم عليها، وتأسيس نظام جديد وشرعية جديدة، وهكذا يتبدى خطاب قطب كأنه دعوة للقطيعة مع التاريخ الحديث للدولة والسياسة ودعوة للقطيعة مع منطق الدولة ذاته. وهكذا، حين نضع الحاكمية مقابل السيادة الشعبية، ينتفي أي إمكان لبناء دولة حديثة، وعندما لا تصبح الأمة هي مرجع السلطات، وإنما تلك الطليعة التي تنفذ الحاكمية أو أميرها الذي يعتقد أنه ناطق باسم الله ومنفذ لأحكامه، تنتفي كل فرصة لنشوء مجال سياسي حديث أو أي شكل ديمقراطي.
المصدر: عربي21