الرسالة نت - فادي الحسني
مع ساعات الصباح الأولى تبدأ جعجعة "الكسارات" في مناطق متفرقة من قطاع غزة، لتفتيت ركام الحرب، وسط غبار كثيف يزيد من تعكر الأجواء الباردة التي يعمل فيها عشرات العمال محدودي الدخل.
ويخوض ما يزيد عن خمسين عاملا -لا يرتدون أقنعة وقائية- في شركة مصلح للإسمنت معركة مع تلال الركام، حيث يضرب بعضهم بالفؤوس لجر قطع أسمنتية ضخمة إلى "الكسارة" حتى تقوم بطحنها، فيما يقوم آخرون بخلط قطع الحصى المفتتة مع الأسمنت لصناعة الحجارة "البلوك" الذي زاد الطلب عليه في الفترة الأخيرة.
ولا يلقي العمال هنا على حدود غزة الشرقية، بالاً للمخاوف التي يثيرها البعض حول تلوث ركام المنازل المدمرة بفعل الحرب، بالمواد المسرطنة والمشعة، لأن الامتناع عن ممارسة هذا العمل سيعيد إدراج أسمائهم مجددا على قوائم البطالة.
بينما المواطنون الذي اضطروا لتشييد بيوتهم بالركام المدور، لا يكترثون لتشكيك الجهات الرسمية في صلاحية هذا الركام المستخدم في تكوين الخرسانة، للصمود أطول مدة ممكنة.
وفي هذا الصدد يطرح سؤال نفسه بقوة: هل من الممكن أن تقلب نعمة تحريك عجلة الإعمار وخلق فرص عمل إلى نقمة التهديد بكارثة إنسانية؟.
عقب التفتيت
ونشطت حركة البناء في القطاع المحاصر منذ أربعة أعوام، عقب إقدام الغزيين على تفتيت الركام الذي خلفته الحرب الأخيرة خريف 2008، واستخدامه كبديل عن الحصمة التي يمنع الاحتلال إدخالها، بالإضافة إلى تمكن عاملي الأنفاق على الحدود الفلسطينية المصرية، من تهريب الأسمنت والحديد وهما مكونان اساسيان من مكونات الخرسانة.
وعملت الحركة الواسعة لأعمال البناء، على تشغيل قطاع واسع من العمال العاطلين عن العمل، والذين كانوا مدرجين على قوائم البطالة التي تضاعفت أعدادها في السنوات الأخيرة بفعل الحصار. ويقول أحمد مصلح وهو صاحب معمل "بلوك": "شركتنا كانت معطلة منذ أعوام، لكن الركام المدور وإدخال الإسمنت عبر الأنفاق ساهم في تحريك عجلة البناء(..) هناك طلب متزايد على الأحجار، كما أننا عملنا على تشغيل خمسيـن عاملا في الشركة كانوا عاطلين عن العمل".
ويشير مصلح إلى أنهم يشترون الركام ليعيدوا تصنيعه من جديد، وذلك في محاولة منهم للتغلب على أزمة المواد الخام التي تمنع "إسرائيل" إدخالها إلى القطاع في ظل الحصار المفروض منذ ما يزيد عن أربعة أعوام.
ويؤكد عامل يعتلي كسارة الركام أن المخاوف المثارة لن تقف حجر عثرة أمامهم. ويقول العامل ووجه ملبد بالغبار: "إذا أنصتنا لتلك المخاوف فما البديل, نجلس حبيسي البيوت!".
تشغيل المصانع
بدوره أشار فريد زقوت مدير اتحاد الصناعات الإنشائية في قطاع غزة، إلى أن إعادة استخدام الركام ساهم في تشغيل مصانع الإسمنت ومعامل البلوك، وعمل على التخفيف من وطأة الحصار، وحرك عجلة البناء والتشييد. وقال زقوت :"أصبح لدى أصحاب معامل البلوك كسارات وهذا دفع بعجلة البناء، لذلك فإن تدوير الركام لديه مردود إيجابي"، معبرا عن خشيته من قرب نفاد الركام المتوفر في القطاع، مما سينعكس سلبا على حركة البناء.
ونوه إلى أن أمرين أساسيين قد يساهمان في تضاؤل حركة النشاط العمراني الحاصل في القطاع، وهما ندرة الردم وغلاء أسعاره.
ووجد المواطنون الغزيون أنفسهم محظوظين، جراء ابتكار فكرة إعادة تدوير الركام، حيث يعتبر الكثير منهم أنه لولا الحصمة الناتجة عن تدوير الركام لما قاموا بترميم منازلهم، أو إنشاء شقق سكنية جديدة، على الرغم من تحملهم تكاليف مالية باهظة مقارنة بأسعار المواد الخام قبل نحو خمسة أعوام(أي ما قبل الحصار).
وكات تكلفة طن الحصمة تقدر في السابق بـ115 شيكل، في حين تبلغ الآن بـ190 شيكل، أما الإسمنت فكانت تكلفة الطن الواحد تصل إلى 380 شيكل، بينما بلغت اليوم 600 شيكل.
ويبدو الأربعيني أبو محمد صيام، سعيدا بعد الانتهاء من تشييد بيته الجديد ذو سقف من الأسبست، لكنه أشار إلى أن المبلغ المالي الذي دفعه مقابل تشييد بيته المتواضع، كان يكفي لبناء بيت من الخرسانة المسلحة قبل أعوام مضت.
واضطر المواطن صيام لدفع المبالغ الباهظة، لحاجته الماسة لإنشاء مسكن جديد كما قال، ويضيف: "لا بديل أمامنا سوى الرضوخ للأمر الواقع".
وفي ذروة عمل الكسارات والازدياد الملحوظ لنشاط المشاريع الإسكانية في قطاع غزة، سواء الذاتية أو تلك التي تشرف عليها الحكومة الفلسطينية بدعم من مؤسسات دولية لتلبية الاحتياجات، تبدي جهات رسمية مخوفها من عدم صلاحية الركام المكرر للاستخدام مجددا في أعمال البناء.
تحذيرات
وتؤكد مديرة دائرة البحوث في وزارة الأشغال العامة والإسكان، المهندسة وداد أبو دية، على أن وزارتها تبذل كافة الجهود لتحذير المواطنين من استخدام الحصمة المدورة في البناء.
وعزت أبو دية هذا الأمر إلى عدم وجود الدراسات والأبحاث العلمية التي تعطي حصمة الكسارة الصلاحية الكاملة لاستخدامها في أعمال الخرسانة، وقالت: "لا ننصح باستخدام هذه الحصمة في أعمال البناء، لأن المشكلة تقع في مدى تحمل وصمود الخرسانة المكونة منها لفترة طويلة من الزمن".
مع أنها أكدت في ذات الوقت، على أن وزارة الأشغال العامة والإسكان أجرت العديد من الفحوصات لاختبار قوة الخرسانة المكونة من حصمة الكسارة، وخرجت بنتائج علمية تؤكد قوة الخرسانة وإمكانية مقارنتها بالخرسانة الطبيعية, إلا أنها تلفت, فالإشكالية تكمن في ديمومة الخرسانة وليس في قوتها، منوهة إلى أن هذه القضية لم يدرسها بعد المختصين.
في نحو متصل قالت أبو دية إن الوزارة تستغل الخرسانة المكونة من حصمة الكسارة في مصانع الحجار والبلوك، بالإضافة إلى رصف الطرق وتعبيدها والتي لا تمثل أي خطر يذكر على المواطن الفلسطيني.
في المقابل يعتبر زقوت ان المخاوف ليست فقط نابعة من موضوع جودة الخرسانة، ولكن قد تنبع من اعادة طحن طبقات "الزفتة" المستخدمة في رصف الشوارع، واستخدامها في معامل البلوك، وهو ما يرى فيه أنه سيحمل انعكاسات سلبية على المواطنين خصوصا في فصل الصيف، لاسيما أن مادة "الزفتة" هي باعثة على الحرارة.
وتجاوزا لتلك الازمة أوضح زقوت أن اتحاد الصناعات الإنشائية تلقى وعودا من جهات خارجية- كان قد أجرى اتصالات معها- بالضغط على الاحتلال لإدخال المواد الخام إلى القطاع. وأكد زقوت أن حركة العمران النشطة والمتواصلة في القطاع ناتجة عن حاجة المواطنين الماسة والضرورية للبناء والتشييد.
ومن الأهمية بمكان أن المخاوف من تدوير الركام لا تقف عند حدود الجودة والصلاحية فقط، إذ يحذر مختصون من ضرورة تجنب الخطر الحقيقي المحدق بالمواطنين، نتيجة تعرض الركام لمواد مشعة ومسرطنة.
وخلفت الحرب الأخيرة على قطاع غزة نحو "1.5 مليون طن" من مخلفات ركام المباني المدمرة ملوثة ببقايا القنابل والذخائر، كالمعادن الثقيلة واليورانيوم المنضب والدايم-وفق تقارير دولية- والتي استهلك الكثير منها في صقل الأحجار الإسمنتية، وتجهيز المباني الخراسانية.
يستخدم كبديل
وإن صحت تنبؤات التقارير الدولية بوجود مواد خطيرة ومشعة في الركام الذي يقوم الغزيون على تدويره واستخدامه كبديل عن مواد البناء المحجوبة عن القطاع بفعل الحصار "الإسرائيلي" المفروض منذ أربعة أعوام، فإن الأمر ينذر بكارثة حقيقية.
وكشفت مصادر رسمية مطلعة لـ"الرسالة" عن أن لجوء المواطنين لاستخدام الركام المدور قد يجعلهم عرضة لخطر كبير، فضلا عن التلوث الذي من المحتمل أن يطال بيئة القطاع أيضا. وشددت المصادر، التي رفضت الكشف عن اسمها، على ضرورة إجراء فحوصات لعينات من تلك الكتل الإسمنتية المفتتة، بغية التأكد من سلامتها من عدمه.
إلا أن سلطة جودة البيئة رفضت نفي أو تأكيد صحة المخاوف المثارة والتي تهدد صحة المواطنين نتيجة إعادة تدوير الركام.
وقال م.عوني نعيم مدير عام حماية البيئة في السلطة: "ركام المباني بدأ يتضاءل وجميع الكميات جرى توزيعها، ولكن ليس لدي إثبات أو نفي أن يكون الركام المدور ضارا أو نافعا، فلم يعط احد انطباعا عنه، إلا أن المخاوف قد تكون على المدى البعيد".
ولفت نعيم إلى أن العينات التي نقلت إلى خارج القطاع بغية فحصها، أثبتت استخدام الاحتلال لمواد مشعة ومسرطنة وعناصر ثقيلة، إلا أنه عاد وقال: "ليس لدينا مختبر للفحص، حتى يثبت أو ينفي ما يتوارد عن وجود مخاطر، فضلا عن عدم وجود كوادر متخصصة".
في حين أن الأستاذ المساعد بقسم البيئة وعلوم الأرض بالجامعة الإسلامية، زياد أبو هين، يقول: "إن معظم التقارير والتحليلات العلمية الدولية تؤكد احتواء ركام المنازل المدمرة الذي يعاد تدويره على مادة اليورانيوم المنضب بنسبة عالية من الإشعاع"، مشيراً إلى أن تلك التقارير صادرة عن جهات أوروبية وفرنسية وإيطالية، إضافة إلى مؤسسات تابعة لجامعة الدول العربية.
وحذر أبو هين من أن إعادة استخدام ركام المباني في مناطق متفرقة من قطاع غزة، سيعمل على نشر المواد المشعة من منطقة قصفت باليورانيوم إلى منطقة أخرى لم تصلها الإشعاعات، مشددا على ضرورة إجراء دراسات دقيقة تبين إذا ما كان ركام البيوت المدمرة يحتوي على مواد مشعة أم لا.
مواد مشعة
في ذات الوقت بين أبو هين أن وزارة الأشغال الفلسطينية قالت:" إن مؤسسة الـ"NDB" أثبتت احتواء هذا الركام على نسب من المواد المشعة، لكن لم تأت حتى الآن جهات مختصة للتأكد من ذلك بشكل دقيق".
وأكد حصوله على ستة تقارير دولية تتحدث عما آلت إليه الأمور في البيئة الفلسطينية بعد الحرب "الإسرائيلية" الأخيرة على القطاع، والتي كان من أهمها الدراسة الصادرة عن المجموعة الإيطالية التي تبين أن معدل نسبة انتشار المواد المشعة والسامة زاد بأضعاف كبيرة عما كان عليه قبل الحرب.
وتستند الدراسات إلى العديد من التشوهات الخلقية غير المسبوقة التي أصابت قلوب الأطفال عقب الحرب خصوصا قاطني المناطق الحدودية، وهو ما كانت قد أعلنت عنها وزارة الصحة الفلسطينية بقطاع غزة.
ولفت د.أبو هين إلى أن الدراسة أثبتت وجود عناصر مثل: عنصر التنجستين السام للأجنة والمسبب لأمراض الجهاز العصبي، والكوبلت الذي يؤثر على الحمض النووي ويحدث تغييرات في الجينات وتشوهات وطفرات جينية، والملوبيديوم السام للحيوانات المنوية، وعنصر الكادميوم المسبب للسرطان، إضافة إلى النيكل والنحاس والزنك والمنجنيز التي تسبب مرض السرطان.
وقال:" إذا ما تبين احتواء الركام على مواد خطيرة فإنه يُحظر استخدامه حتى وإن لم يكن هناك بديل أمام المواطنين(..) إن درء المفسدة أولى من جلب المنفعة، لأن البديل سيكون له مفاسد أكبر من منافعه من خلال بناء منازل من ركام منازل تعرضت لقصف بأسلحة محرمة دوليا تحتوي على مواد مشعة وسامة".
ويدعو د.أبو هين كافة الجهات المختصة والمؤسسات الدولية والمحلية ذات العلاقة إلى فحص عينات جديدة من ركام المنازل المدمرة في مختبرات ثقة للتعرف على طبيعتها، مشدداً على أنه إذا تبين احتواؤها على نسب إشعاع مرتفعة عن الحد المسموح به عالمياً لابد من التوقف الفوري عن استخدامها في بناء بيوت جديدة لتلاشي كارثة بيئية من الممكن أن تحصل إذا صحت التنبؤات باحتوائها على مواد مشعة.
وأمام هذه الجملة من التناقضات بين مؤيدين لاستهلاك الركام في الخرسانة للإبقاء على مصدر الرزق متاحا، ومعارضين يحذرون من كارثة، يبقى المستقبل مبهما ومجهولا.