شهداء فلسطين ليسوا أرقاما، هم حكايات تروى بمرارة الفقد والوجع، وسنوات الاحتلال العجاف، كل قصة تمر نظن أنها الأوجع حتى يرتقي شهيد آخر ليروي رحيله تفاصيل موجعة أكثر.
وحين تتناقل وسائل الاعلام حكايا رحيلهم لتوثيقها في صفحات التاريخ تعلق غصة كبيرة بين السطور لا يمكنها وصف حياة فلسطيني حتى وإن كانت قصيرة.
صرخات الآباء والأمهات المكلومين تصل إلى أقصى بقاع الأرض وتخترق آذانا صماء، تماما كصرخات والدة الفتى "خليل أبو حمادة" -20 عاما- الذي ارتقى ليلة أمس في قصف على مخيم جباليا.
لم تقو والدة الشهيد "نجوى" على المشي للوصول إلى ولدها وهو مسجى قرب ثلاجة الموتى، لم تستوعب ما جرى، قبل أقل من نصف ساعة كانا يتبادلا أطراف الحديث ويخططان ماذا سيفعلان بعد انتهاء التصعيد وأين ستكون وجهتهما الأولى، بينما والده ينصت لحديثهما ويرسم في مخيلته شكل الفرح الذي سيقيمه لوحيده الذي انتظره 11 عاما كي يزين حياته.
قرب ثلاجة الموتى تقترب الأم بخطوات ثقيلة عير مصدقة المشهد تنقض على ولدها وتتحسس ملامحه لتتأكد أنه هو تقترب منه وتحتضنه وتردد "يا ريت نمت جنبك يا عمري"، في إشارة منها لتموت برفقته قبل أن تراه مضرجاً بدمائه.
حاولت إيقاظ ولدها لكنه لم يجب كعادته فهو يحب أن "تدلـله وتغني له" حتى يفيق، لكن هذه المرة هزته كثيرا وبكته أكثر لكن دموعها لم تجعله ينهض، فاستعجبت لأمره فهو الذي يخشى حزنها دوما، وكان يعدها ووالده بأن يجعلهما طيلة العمر يضحكان، فهو "فاكهة البيت" يملأ عليهما وحدتهما يقص عليهما القصص المضحكة، يتعاملان معه كما لو كان شقيقهما، يحن عليهما أكثر فهو كان يدرك حجم شوقهما إليه حتى جاء إلى الحياة.
حياة الزوجين كانت قبل مجيء وحيدهما الشهيد مليئة بالانتظار، فبعد أكثر من محاولة لإنجاب طفل تزينت حياتهم بـ "خليل"، فخبر حملها به جاب المنطقة فرحا، وفي الثالث والعشرين من مارس 2003 أبصر مولودها النور وعم الفرح وأقام والده "إياد" الولائم ووزع الحلوى على المارة، فلاتزال مراسم الاحتفال بقدومه عالقة في أذهان جيرانه وأقاربه.
وكما يقول المثل " تربى مع كل شبر بندر" تماما كما "خليل" الذي كان يراقبه والده حتى غدا شابا يافعا، وكان حين يكبر عاما يفرح والداه أكثر، حتى قرر والده تزويجه ليفرح به ويرى أولاده، ويحكي كيف سيحكي الجميع بفرح ابنه الذي لن يشبه أي زفاف.
ولأجل "خليل" ثابرت أمه ودرست حتى حصلت مؤخرا على درجة البكالوريوس في التمريض، لتحصل على وظيفة قابلة في مستشفيات القطاع، وكما سهرت على دراستها أحسنت تربية ولدها وتعبت عليه حتى أنهى الثانوية العامة وبدأت وزوجها الذي يعمل سائقا بتجديد البيت وبناء شقة له لتزويجه ويأتي لهم بأحفاد يملؤون البيت عليهم.
كانت تتنقل الأم بين الجارات والأقارب لتهمس بأنها بدأت بتجهيز غرفة نوم "خليل" لتزفه عريسا، وتعدهن بأنهن أول المدعوات لمشاركتها الفرحة، وحكت لهن عن شكل الفرح والفستان الذي سترتديه، وحتى ملامح العروس التي اقتربت من اختيارها لوحيدها.
أما والده كان يحكي للجيران " حعمل فرح ما صار ولا حيصير، وحيسمع كل العالم فرحتي بوحيدي"، وفعلا تحققت أمنيات الوالدين بزفافه شهيدا إلى السماء.
ولا تزال عينا والدته ترقب باب البيت عله يدخل عليها مهلهلا "وين يام العريس"، أما والده فلم يستوعب ما هو فيه حيث يقف يستقبل عزاءه بدلا من التهنئة بزفافه.