لقد كانت القدس والمسجد الأقصى دوما منطلقا وعنوانا مركزيا لتصحيح المسار كلما تراجعت الأمة وضعفت، وهذا ما حصل في محطات عديدة من تاريخنا، كما حدث في زمن الحروب الصليبية والغزو المغولي، وهذه المرة لن تكون مختلفة.
فمنذ نشأة الكيان عام 1948 حاول الصهاينة تضليل الجميع وإظهار العنصر الإنساني القومي مبررا لاحتلالهم أرضنا وإنشاء دولتهم، وفي الوقت نفسه إخفاء العنصر الديني في مشروعهم، وفي المقابل استثمروا جهودا كبيرة لتحويل الصراع من صراع مع الأمة الإسلامية حول مقدساتها، إلى صراع قومي عربي-إسرائيلي ومن ثم صراع فلسطيني-إسرائيلي، كي يحرموا الفلسطينيين من عمقهم الإستراتيجي العربي والإسلامي، ومن ثم يحرمونهم مقدرات ضخمة لصالحهم في المعركة.
للأسف الشديد تساوق بعض أبناء أمتنا العربية والإسلامية مع هذا الطرح، وشيئا فشيئا نفضوا أيديهم من المسؤولية الدينية والقومية وحتى الإنسانية تجاه القضية الفلسطينية وشعبها، إلى أن وصلنا إلى ما يسمى "الاتفاقات الإبراهيمية" مع بعض الدول العربية، حيث تخلت تماما عن مسؤولياتها تجاه القضية الفلسطينية، رغم ادعائهم أن هذه الاتفاقيات هدفها مساندة الشعب الفلسطيني، ولكن سلوكهم الفعلي وما صرحوا به في حواراتهم الخاصة، بأن القضية الفلسطينية لم تعد موجودة على أجندتهم الوطنية ينبئ بعكس ذلك.
في السنوات الأخيرة، حيث كشف الصهاينة عن حقيقتهم المتطرفة فانحازت غالبيتهم نحو اليمين وتلاشى فعليا اليسار، وسيطرت المجموعات الدينية اليهودية المتطرفة على مفاصل الكيان السياسية والمجتمعية، وهذا ما نلحظه في تسابق الجميع، بما فيهم المحسوبين على اليسار، لإرضاء اليمين الديني المتطرف في تصريحاتهم وأفعالهم في إطار الحملات الانتخابية الحالية، هذا الانكشاف لحقيقة المشروع الصهيوني، بلا مواربة، مشروع ديني متطرف، يعيد الصراع إلى نصابه الحقيقي.
ولعل ما نشهده اليوم من تمهيد للأعياد اليهودية، يؤكد حقيقة المشهد على الأرض. فقد اعتمدت الحكومة الصهيونية منذ العام 2018 مخططا تنفيذيا تفصيليا لتهويد شرقي القدس، وأهم عناصرها السيطرة على الأرض الفلسطينية، ورصدت لذلك مليارات الشواكل، وسخرت له كل فرص النجاح.
بالتوازي مع هذا المخطط، فإن مخططات السيطرة على المسجد الأقصى وتهويده تسير بوتيرة متسارعة، فلأول مرة منذ عام 1967، حين سيطر الصهاينة على شرقي القدس، يرفعون الأعلام داخل المسجد ويؤدون الصلوات التلمودية وما يسمى بالسجود الملحمي، وبحماية قوات الاحتلال، بل إنهم ولأول مرة يسمحون لليهود بالخروج من أبوب جديدة غير باب المغاربة، حيث خرجوا من باب الأسباط والسلسلة، ويخططون لتوسعة باب المغاربة بما يسمح بدخول الآليات، مما قد يعني دخول المركبات العسكرية للسيطرة التامة على المكان عند اللزوم، بل إنهم يخططون أن تصل أعداد المقتحمين هذا العام إلى أكثر من 50 ألفا، وهو أكثر من ضعفي عدد العام الماضي.
كل ذلك يأتي في إطار خطتهم لفرض التقسيم الزماني والمكاني في المسجد، كما هو حاصل في الحرم الإبراهيمي اليوم، على طريق السيطرة الكاملة على الحرم وهدم المسجد وبناء الهيكل. بالطبع فإن هذه الرؤية صاحبت قادة الكيان منذ نشأته، فالمحاولات لتحقيق ذلك لم تتوقف يوما، ولعل الحفريات تحت المسجد الأقصى التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي دليل واضح على هذه النية الخبيثة، ولكن الجديد الذي سمح لهم بتنفيذ هذه الأنشطة وبكل وقاحة، هو تحييدهم للبيئة المحيطة عربيا وإسلاميا وإدراكهم أنه لن يكون رد الفعل مقلق بالنسبة لهم حتى على المستوى الشعبي، لا سيما بعدما تم تحطيم قدرات شعوبنا العربية والإسلامية في السنوات الأخيرة.
لعل أهم العوامل في تأخير هذه المخططات للوصول إلى محطتها الأخيرة كانت مقاومة شعبنا بكل أشكالها، المرابطون داخل المسجد على مدار الساعة، هبات شعبنا المتكررة ضد الإجراءات الصهيونية وليس آخرها المقاومة المسلحة التي كان أبرزها في معركة "سيف القدس"، حيث أدرك الصهاينة بشكل واضح أن المسجد الأقصى والقدس ليسا مجرد خطاً أحمر، بل جزء من عقيدتنا الدينية وأيقونة ثوابتنا الوطنية، ودونهما فإن شعبنا ومقاومته جاهز لدفع أي ثمن مهما غلا، حتى لو تخلى عنا الجميع.
وهكذا فإن الصهاينة يصححون، من حيث لا يدرون ولا يرغبون وبفعل متطرفيهم، مسيرة الصراع، ويضعونها في نصابها التاريخي الصحيح، معركة حول هوية الأمة والمنطقة. وهنا نقول للصهاينة وقادتهم لا يغرنكم ضعف أمتنا واستبداد الحكام هذه الأيام، فأمتنا قادرة على النهوض من جديد رغم كل الجراح، وقد فعلت ذلك أكثر من مرة على مدار تاريخها.
هذه الجولة الجديدة في المسجد الأقصى كفيلة بأن تشعل حريقا كبيرا في المنطقة وتطلق موجة حرب دينية مفتوحة، فشعبنا ومقاومته لن يسمحوا بمرور هذه الانتهاكات مرور الكرام وسيضعون العدو أمام خيارات كلها صعبة.
ختاما نقول: يجتمع قادة العالم اليوم في الأمم المتحدة في الدورة الـ77 للمنظمة، والعنوان الأساس للبحث هو السلم والأمن الدوليان، وشعبنا الفلسطيني أعطى كل الفرص لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة دون التنازل عن حقوقنا الأصيلة بالحرية والاستقلال والعودة.
فإن كان هؤلاء القادة جادين في منع الانفجار وتحقيق الاستقرار، فعليهم، واحتراماً للقانون والقرارات الدولية أن يتصدوا لهؤلاء المتطرفين الصهاينة ويوقفوا عبثهم بالسلم والأمن الدوليين، ويجبروهم على الكف عن جرائمهم بحق شعبنا ومقدساته، خاصة ضد المسجد الأقصى، لا سيما في فترة الأعياد اليهودية، وإلا فإن القادم خطير.