قائمة الموقع

مقبرة الانجليز .. تحفة أوروبية في غزة

2011-01-17T18:32:00+02:00

الرسالة نت/ شيماء مرزوق

تعبق منها رائحة الغرب وتفرش أرضها ببساط من "النجيل" الأخضر وتتسلق الأزهار جدرانها المكسوة بالأحجار الصخرية، وتزين الأشجار طرقاتها التي توزعت بشكل هندسي جميل, يقف على المحور الجنوبي لها نصب تذكاري ضخم كسيت جدرانه ببلاط صخري ويرتفع خمسة أمتار في السماء يتوسطه صليب كبير.

(إن الأرض المقام عليها المقبرة هي هبة من أهالي فلسطين لتكون مقر الراحة الأبدية لجنود الحلفاء الذين قتلوا في حرب (1914-1918) تخليدا لذكراهم) هذه الكلمات كتبت باللغتين العربية والانجليزية على النصب الصخري.

بساط أخضر

مقبرة جنود الحلفاء أو كما يسميها الغزيون "مقبرة الإنجليز" شرق مدينة غزة باتت مقصدا للمواطنين الذين يتجهون إليها للتنزه والجلوس على البساط الأخضر الذي ينبسط على امتداد البصر واللهو وسط الأشجار والزهور المنتشرة في المكان، خاصة أن عمرها يزيد عن تسعين عاما.

فما أن تقطع الشارع الطويل تزين جوانبه أشجار المورسيان والدرينكس والمؤدي إلى البوابة, حتى يفتنك منظر الوشاح الأخضر الذي يكسى ارض المقبرة والتي تبلغ مساحتها أربعين دونما تحمل في أحشائها جثثا لحوالي أربعة آلاف من الجنود غالبيتهم من البريطانيين وضع على كل قبر شعار الدولة التي ينتمي إليها الميت، بينما نحت على الشاهد اسم الدولة وعمر الميت ورتبته العسكرية ووقت وفاته.

وبعض القبور مكتوب عليها جمل تدل على وضع صاحب القبر، فيوجد قبران متلاصقان لاثنين من الأقارب، وقبر كتب عليه ابن أبيه الوحيد, والى الشمال من المقبرة تم دفن الجنود الأتراك، من دون أن يوضع على قبورهم شواهد تشير إلى أسمائهم, كما يوجد ضريح جماعي للهنود المسلمين والهندوس.

و تعد هذه المقبرة إحدى خمس مقابر تحكي تاريخ غزة الاستعماري الحديث وتشهد على ضراوة المعارك التي خاضها العثمانيون ضد قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين و إقامة دولة (إسرائيل) حيث دفن فيها 3029 قتيلاً وفق سجلات المقبرة، من الانجليز والحلفاء من مجمل عدد قتلاهم في فلسطين والبالغ أكثر من عشرة الاف قتيل.

استجمام بين القبور

أضحت المقبرة مقصداً لآلاف الغزيين معظمهم من الشباب والفتيات لأخذ الصور التذكارية، بينما يتجه إليها الكثير من طلبة المدارس والجامعات للدراسة نظراً للهدوء والراحة التي تميز المكان، كما تجد فيها العائلات الغزية ضالتها لاصطحاب أطفالهم إليها للعب واللهو وقضاء يوم جميل وممتع.

ورغم إصرار الغزيين على تحويل المقبرة لمكان استجمام إلا أن القائمين عليها يؤكدون أنها "ليست متنزها" وإن كانت مفتوحة للزوار, فيقول الحاج إبراهيم جرادة الذي أمضى أكثر من أربعين عاما وهو يعمل بها "هذه المقبرة اسمها مقبرة حرب غزة والتابعة للشعوب البريطانية "Gaza War Cemetery " و تقع وسط حي التفاح شرق مدينة غزة , وأعمل فيها منذ 46 عاما , وأرعاها كما ترعى الأم ابنها حيث استلمت إدارتها عام 1958م بعد والدي ربيع جرادة الذي كان يعمل في منظمة الكومونولث ويعمل في المقبرة حاليا أولادي".

ويتابع جرادة الذي تقاعد منذ فترة قريبة فقط من رئاسة طاقم رعاية المقبرة, قوله " أن جنسيات الجنود المدفونين متعددة ومتنوعة، فبعضهم من أستراليا وكندا وبريطانيا وهناك إنجليز من أصل يهودي ومسلمون أيضا وتوجد هيئة تسمى الكومونولث هي المسئولة بشكل تام عنها، وتتولى صرف ميزانيتها بشكل دائم".

ويضيف: "العائلات الإنجليزية أيضا كانت تزور هذه المقبرة دوريا، وكانت توكل بعض الأشخاص بإرسال صور لقبور أبنائهم المدفونين هنا إلا أن عددهم قل كثيرا بسبب الأوضاع السياسية".

ويواصل الحاج إبراهيم قوله أن هذه المقبرة تعتبر معلما تاريخيا قديما جدا في قطاع غزة وليس متنزها للناس، ويبين: "هناك تساهل كبير مع الناس لدخولها والاستمتاع بمنظرها الجميل، فالعديد من الرحلات المدرسية والسياح الأجانب يترددون بشكل شبه يومي إلى هذا المكان".

ويقول أن هناك العديد من العمال الذين يعملون بها بشكل يومي ويقومون بأعمال ترميم القبور وزراعة أشجار الزينة حيث يتقاضون رواتبهم من القنصلية البريطانية",  رافضا الحديث عن حدود الرواتب لديهم.

ويعمل عدد من عائلة جرادة الفلسطينية منذ أكثر من ستين عاما على حراسة وإدارة شؤون هذه المقبرة ويتلقون رواتبهم الشهرية من السفارة البريطانية في القدس، ويدير المقبرة اليوم عصام 44 عاما، الذي استلم هذا العمل بعد أبيه إبراهيم الحاصل على وسام رفيع من ملكة بريطانيا (ام بي أي) والذي تولى هذه المهمة بدوره بعد وفاة والده الحاج ربيع.

يذكر أن الحكومة البريطانية توفر ميزانية كبيرة، وكل ما يلزم، لبقاء المقبرة مكاناً جميلاً, حيث يتبع لها مشتل كبير، لزراعة الزهور، لتزيين المقبرة، واستبدال أية شتلة تفسد أو تموت فوق القبور, وهناك مصنع خاص في فرنسا يقوم بصناعة شواهد القبور واستبدال ما يتلف منها.

شاهدة على التاريخ

تشهد هذه المقبرة على أول اقتحام غربي في العصر الحديث للشرق, كما تدلل على ضراوة المعارك التي خاضها العثمانيون، ضد قوات الاحتلال البريطاني، في الحرب العالمية الأولى، وقد صمدت غزة في تلك الحرب نحو ثمانية شهور, حيث تم خلالها صد ثلاث محاولات لاحتلال غزة، أدت إلى طرد ثلاثة قادة بريطانيين، كان آخرهم الجنرال ’’اللنبي’’ الذي سقطت غزة على يديه، لتسقط بعدها القدس وكل فلسطين، في أيدي قوات الحلفاء.

بعد أسر الجندي الصهيوني جلعاد شاليط شن الجيش الإسرائيلي عدوانا واسعا على قطاع غزة وصل حتى مشارف مدينة غزة حيث تقع المقبرة البريطانية مما الحق أضرارا بالنباتات وبعض الأبنية التابعة لها جراء تحرك الدبابات والجرافات وقصف المروحيات الإسرائيلية, تقدمت بعدها سفارة بريطانيا في تل أبيب بشكوى رسمية لوزارة الخارجية الإسرائيلية والجيش على الأضرار التي لحقت بالمقبرة وطالبت بدفع تعويضات, وبعد مناقشات عديدة حولت (إسرائيل) للحكومة البريطانية شيكا بقيمة 145 ألف دولار كتعويض عن الأضرار التي لحقت بالمقبرة خلال عمليات القصف التي رافقت عملية " أمطار الصيف " في تموز 2006 .

ولم تسلم المقبرة خلال الحرب الأخيرة التي شنتها (إسرائيل) على قطاع غزة مع نهاية العام 2008 فقد قصفت وألحقت بها أضرارا بالغة, حيث أن 287 ضريحا تضرّرت بفعل القصف الإسرائيلي الذي دمّر بعضها بشكل كامل، كما سقطت خمس قذائف إسرائيلية عليها تسببت بأضرار جسيمة بمقتنياتها, إلا انه تم إصلاح الأضرار فيما بعد واستبدال الشواهد المدمرة بأخرى جديدة.

وتبقى مقبرة الانجليز شاهداً حيا على صمود أهل فلسطين في وجه الاستعمار الذي عانت لعقود طويلة ولازالت من ويلاته, وخاضت حروبا ضارية في دفاعها عن ارضها ولتبقى هذه المقبرة شاهدا على زرع دولة مغتصبة روتها دماء جنود الحلفاء الذين قاتلوا من أجل قيامها.

 

اخبار ذات صلة
فِي حُبِّ الشَّهِيدْ
2018-04-21T06:25:08+03:00