وإلى أن يحين وقت فتح هذه الملفات، والتي لا أظنّ أن موعد فتحها سيكون بعيدًا، فإن المطلوب الآن مناقشة مسألتين مركزيتين يفترض أنهما تهمّان مجتمع الداخل الفلسطيني؛ حاضره ومستقبله. أما المسألة الأولى فتتعلق بتردي المشهد السياسي المحلي إلى أدنى درجاته، والذي بدأ عمليًا بموازاة حدثين اثنين وقعا عام 2015: تشكيل القائمة المشتركة في كانون الثاني، وحظر الحركة الإسلامية في تشرين الثاني. وأما المسألة الثانية فتتعلق بتوفر الفرصة للخروج من عنق الزجاجة، وتفكيك الأزمة والانعتاق من تبعاتها، رغم كل ما جرى من أحداث وتداعيات على مختلف الصُّعد طوال السنوات السبع الأخيرة.
كانت الحركة الإسلامية قبل حظرها تشكل (على الأقل) عاملَ توازنٍ ساهم مساهمة كبيرة في ضبط الأداء السياسي، بما في ذلك أداء الأحزاب المشاركة في الكنيست الصهيوني، من خلال نشاطاتها الّتي ملأت الميادين على مدار الساعة في مختلف المجالات، ومن خلال خطابها الفكري والسياسي الّذي شكّل الطرف الأكبر وزنًا في معادلة مسيرة الداخل الفلسطيني. ولم تكتسب الحركة هذا الدور المركزي عبثًا، وإنما اكتسبته بجهد عشرات السنين من خلال طرحها البديل العملي، والمشروعات النهضوية، وخطاب التمسك بالثوابت، والحفاظ على الهوية الجمعية لمجتمع الداخل من خلال التأكيد والعمل على تقوية انتمائه لدوائره الثلاث: الفلسطينية والعربية والإسلامية في مواجهة الأسرلة والاندماج، ومراغمة خطط مسخ الهوية وزعزعة ثقة الفلسطيني بصدقية قضيّته وروايته وحقّه التّاريخيّ والدّينيّ والحضاريّ في الجغرافيا الفلسطينيّة الّتي هي جزء من بلاد الشّام التاريخيّة.
وعندما نقول إنّ الحركة كانت على الأقل عنصرَ توازن، فهذا يعني أنها كانت أكبر من مجرد عنصر توازن، إذ كانت مشروعًا بديلًا قويًا أثبت على أرض الواقع أن في إمكاننا، كمجتمع، أن ننهض بأنفسنا خارج الملعب الإسرائيلي، وأننا نملك الأدوات التي نحتاجها لتحقيق هذا النهوض، وأهم هذه الأدوات الحاضنة الشعبية التي احتضنت المشروع وتفاعلت معه حتى بدأت ثماره تنضج وتصل إلى شرائح مختلفة من المجتمع. وكان ما ينقصنا هو الإرادة الجماعية من خلال الوقوف خلف المشروع ودعمه بكل قوة، بدلا من محاولات تعطيله، ووضع العقبات في طريقه، واعتباره خصما منافسا على المكانة تجب إزاحتُه من الطريق….
فعلت الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا ذلك من خلال مشروع المجتمع العصامي التي قادت مسيرتَه نحو ثلاثين مؤسسة أهلية في مختلف التخصصات التربوية والدينية والفكرية والعلمية والسياسية والبحثية والإعلامية والأُسَرية والاقتصادية والجامعية والصحية والرياضية والفنية وغيرها مما تحتاجه المجتمعات الحيّة للتقدم والارتقاء.
وفعلت ذلك من خلال تقديم الخدمات للفرد وللأسرة، للطالب الثانوي والجامعي، ولشريحة الشباب، ولأصحاب المهن والحرف، ولليتيم وللمريض وللمحتاج وللعامل وللمسن، للرجل وللمرأة وللطفل.
وفعلت ذلك من خلال ربط الفرد الفلسطيني بقضاياه الكبرى، وفي مقدمتها قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك وسائر المقدسات، الّتي تشكل قلب قضية الصراع على فلسطين التاريخية.
وفعلت ذلك من خلال الاهتمام ببناء الإنسان في النقب عبر مشروعات التواصل السنوية، سعيا إلى تثبيت أصحاب الأرض والبيت على أرضهم وفي بيتهم.
وفعلت ذلك من خلال مشروعات التواصل مع الأهل في مدن الساحل.
وفعلت ذلك من خلال قيادة الحراك الجماهيري الذي استطاعت بواسطته حشد عشرات الآلاف في المناسبات المختلفة، سواء على مستوى مهرجان “الأقصى في خطر”، أو شدّ الرّحال إلى الأقصى، أو المظاهرات الكبرى التي شهدها مجتمعنا طوال ثلاثة عقود مضت دعما لمختلف قضايانا، أو احتجاجا على المس بهذه القضايا.
وعلى الرغم من أن الحراك السياسي في مجتمع الداخل كان يسير في اتجاهين متناقضين؛ أحدهما تقوده الحركة الإسلامية التي حُظرت لاحقا، ومعها تيار آخر او اثنان تختلف معهما إيديولوجيا ولكن تلتقي معهما في رفض نهج الاندماج والسير في طريق الأسرلة، والآخر تقوده سائر التيارات والأطر الحزبية التي اختارت نهج اللعب داخل الملعب الإسرائيلي من خلال المشاركة في اللعبة السياسية الإسرائيلية المتمثلة في الكنيست الصهيوني، إلا أن جميع هذه المتناقضات التزمت بالحد الأدنى من الضوابط والتفاهمات الضمنية -غير المكتوبة- حول خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، الأمر الذي ساعد إلى حد كبير في إنجاز أعمال وأنشطة مشتركة مثّلت كل الطيف السياسي ضمن إطار لجنة المتابعة.
ولما وقع الحظر الإسرائيلي على الحركة الإسلامية أفلتت الأمور من عقالها، واختلّ التوازن الذي كان يسير على خيط رفيع جدًا، وانحرفت البوصلة أكثر فأكثر، واهتزت الثوابت أو الكثير منها، حتى بدا وكأن الأحزاب التي كانت بالأمس حريصة على الخطوط الحمراء قد تجاوزت الكثير منها، بينما تجاوز بعضها كل الخطوط بصورة غير مسبوقة.
وها نحن نشهد اليوم الحال المتردي الّذي أوصلت أحزاب الكنيست مجتمعنا إليه، بحيث لم يعد له حول ولا قوة، وبات في حيرة من أمره، لا يكاد يتبين الطريق.
وكانت السنوات الثلاث الأخيرة من أصعب وأخطر وأقسى السنوات التي يعيشها مجتمع الداخل في ظل انهيار شبه تام للعمل السياسي الملتزم فعليًا بالقضايا المرتبطة بملف الصراع على فلسطين، بعد أن حوّلت تلك الأحزاب- خلال تلك السنوات الثلاث- الهمّ الفردي والجمعي إلى قضية تحصيل حقوق المواطنة الإسرائيلية على حساب كوننا جزءًا أصيلا من الشعب الفلسطيني، ومن قضيته ومن مستقبل هذه القضية.
لقد كان حظر الحركة الإسلامية قبل سبع سنوات حدثًا سياسيا مُزلزلا، وكان يُفترض أن يُحدث زلزالا سياسيا لدى مجتمع الداخل وفي مقدمته الأطر السياسية، إلا أن ما حدث هو العكس تماما.
لقد وفّر الحظر فرصة لمجتمعنا لإحداث نقلة تاريخية في دورنا كجزء من الكلّ الفلسطيني والهمّ الفلسطيني، إلا أن هذا المجتمع بقياداته وأطره ضيّع من بين يديه هذه الفرصة واختار امتصاص الحدث والتعامل معه كأنه تحصيل حاصل، حتى وصل الأمر ببعض هذه القيادات أنها حمّلت –وما تزال- الحركة الإسلامية مسؤولية ما حدث، بل إن بعض هذه القيادات بات ينظّر لنهجه على أنه هو النهج الأصوب الذي يجب على مجتمعنا تبنّيه. وأستطيع أن أكون أكثر صراحة وأقول إن بعض الأطر اعتبرت الحظر فرصة لإزاحة عقبة كأداء وقفت أمام تقدمها وهيمنتها على المشهد. وقد أكد هذا سلوكُ هذه الأطر وطريقة تعاملها مع الحظر. أما ما لدينا من معلومات وقرائن ترتقي إلى درجة الدليل، فنترك الحديث فيه إلى الوقت المناسب، عندما تُفتح ملفات كثيرة في لحظة ما.
نعم، كانت هناك ردة فعل جماهيرية غاضبة بسبب الحظر، وكان هناك تفاعل شعبي مع فعاليات مناهضة الحظر، لكنها لم تكن بمستوى حجم الحدث، كما لم تكن ذات طابع استمراري متواصل كان يمكن أن يسهم في إحداث نقلة أو تغيير أو استنهاض الهمم أو الدفع نحو عودة المجتمع إلى المربع الذي يجب أن يكون فيه؛ مربع الصراع على فلسطين ومراغمة المشروع الصهيوني، من خلال الثبات على الثوابت ورفض الذوبان (الحاصل الآن) وعدم الاستسلام للواقع الذي فرضته المؤسسة الإسرائيلية. بل يمكن القول إن بعض الأطر والجهات تعاملت مع الحدث من باب إسقاط الواجب، وكأنها تتضامن مع مظلوم في البرازيل أو الأرجنتين أو فنزويلا!! في وقت لم يكن المطلوب هو التضامن، بل التصدي بكل وسيلة للحظر وكأنه واقع عليها هي وليس على تيار “شقيق”.
ورغم الألم الذي يتفاقم مع مرور السنوات إلا أن حضور ما كانت تمثله الحركة الإسلامية قبل حظرها، ما يزال قويا ومركزيا في المشهد الحالي، ولم يتمكن الحظر من إزالته وشطبه، كما لم تنجح الأطر السياسية في مجتمعنا من إضعاف خطابه، رغم غياب الإطار والمؤسسات، ورغم الملاحقات، والتضييق والاستهداف.
رغم هذا كله ما تزال أمام مجتمعنا فرصة للخروج من عنق الزجاجة الإسرائيلية، والانطلاق، والانعتاق من التبعية للعبة السياسية الإسرائيلية، والتخلي عن اعتبار هذه اللعبة وكأنها الإمكانية الوحيدة المتاحة أمامنا كي نستمر.
ما تزال الفرصة متاحة، بل هي اليوم أكبر بعد أن خاضت الأطر والأحزاب في السنوات الثلاث الأخيرة (خمس جولات انتخابية للكنيست) تجربة غير مسبوقة كشفت حقيقة اللعبة السياسية الإسرائيلية والفشل في تحقيق أي إنجاز من خلالها.
ما تزال الفرصة متاحة لرفض الواقع والسعي إلى تغييره، وجمع أطراف الخيوط المتناثرة، والتخلي نهائيا عن الخيارات الحالية التي أثبتت التجربة فشلها الذريع، والانطلاق في طريق جديد يجتمع فيه الكلّ ضمن إطار جامع، بعيدا عن الفئوية الحزبية والأنانية والمصلحة الضيقة؛ هذه الثلاثية التي تتحكم الآن بالنهج والسلوك والمسير.