شغف كرة القدم يجتاح العالم، والأدباء ليسوا استثناء فلطالما ألهمت مشاعر وحماسة كرة القدم خيال الروائيين والشعراء، خاصة لأنها مثل الشعر والنص الأدبي، قادرة على التواصل مع الناس وإثارة عواطفهم.
في عام 1982، كانت الهندوراس تحلم بكتابة تاريخ جديد في كرة القدم خلال مشاركتها في مباريات كأس العالم التي أُقيمت حينها في إسبانيا.
كان الشاعر الهندوراسي دينيس آفيلا رضيعا حينها، وكبر على حكايات مونديال، وهجرة خاله؛ فلا أحلام كرة بلاده بالفوز تحققت، ولا أحلام خاله، وكتب يقول في جزء من قصيدته "شهادات":
"خالي قيصر هو السفينة/ أبحر في خليج المكسيك/ سالكًا كلمة "الشمال"/ 15 يومًا ويصل إلى حلمه/ كانت أزمنةً أخرى/ القطار المتوحش سمح للمهاجرين بدخول مقطوراتهم/ وحين كفَّ الدخان عن الانبعاث/ كان بإمكانهم النزول والتقاط النجمة الملقاة على الطريق/ وصل الولايات المتحدة/ قبل يوم من مباراة كرة القدم/ الأكثر أهمية في تاريخنا/ كان عبورا موفقا/ حتى أصدر الحكَم تسديدة جزاء لصالح البلد المضيف/ في شهادتِهِ أدركتُ أن الهدف الأول للهندوراس في كأس العالم/ كان لا بد أن يكون/ رمزا وطنيا".
هكذا إذن، وثق آفيلا حكاية هدفٍ تائه لبلاده في شعره، فالكرة ليست مجرد لعبة رياضية موسمية، بل تدخل في تفاصيل الحياة اليومية في أميركا اللاتينية عامة. العائلة بأكملها تستذكر مطاردة فردٍ من أفرادها للحلم الأميركي وتربطه بمطاردة منتخبها لحلم كأس العالم، بحسب تقرير غدير أبو سنينة السابق للجزيرة نت.
كرة القدم كرواية
الكاتب المكسيكي خوان بيورو يقارن بين الكتابة الأدبية ولعبة كرة القدم، بأن لكل منهما قواعد، ويمثلان عالمين مختلفين؛ فحضور المباراة وقراءة عمل أدبي كفيلان بإثارة المشاعر، كما أن قارئ النص الأدبي يقسم الشخصيات حسب الصراع الدائر بين الخير والشر، كذلك يفعل جمهور كرة القدم، إذ تمثل المباراة صراعا بين طرفين.
وينظر بيورو لكرة القدم بوصفها رواية، تقع فيها حكايات وأحداث كثيرة مأساوية تتطور بها الشخصيات، أي اللاعبين، وترافق الكلمة مباريات كرة القدم من خلال "التعليق".
كتب بيورو كتابين عن كرة القدم، ويفترض أن قرّاء أعماله ينقسمون لصنفيْن: عاشق لهذه اللعبة، يعرفها جيدا وربما أكثر من الكاتب نفسه. وكاره يتساءل: ما الذي يدفع روائيا وقاصّا للكتابة عن "هذا الجنون"؟ حسب بيورو.
وفي تعليقه السابق للجزيرة نت قال بيورو إن كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبية في أميركا اللاتينية، لكنها كانت بالنسبة لكثير من الكتّاب "اهتماما شعبيا بدائيا"، وسادت فكرة أن جمهورها مكوّن من أشخاص لا يقرؤون. وحتى ستينيات القرن الماضي لم يكن يُنظر لتلك الرياضة كظاهرة اجتماعية مهمة.
تاريخ من الكتابة
يسرد بيورو شيئا من تاريخ الكتابة الأدبية عن كرة القدم، فيذكر كيف سخر الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس في شبابه من هذه اللعبة، من خلال مجلة "برووا"، وترجمتها للعربية "مقدم السفينة"، بينما سمّى أحد المحررين في المجلة نفسها جمهور كرة القدم "باللاعب رقم 12″، معتبرا الجمهور لاعبا أساسيا في هذه الرياضة.
ويُطلق على مجموعة المشجعين لنادي "بوكا جونيورز" الأرجنتيني اسم "الـ12". ومع أن بورخيس اعتبر كرة القدم "نوعا من المراوغات المنفرة"، فإن كتّابا آخرين بدؤوا العمل على اكتشاف أسرار هذه الرياضة.
ورغم وجود كتّاب ما زالوا يعتبرون كرة القدم لعبة شعبية مبتذلة، فإن غيرهم نظر إليها من زاوية أخرى، بوصفها رياضة لها دلالات سياسية واجتماعية ودينية وثقافية، كالأرجنتيني إدواردو ساشيري، مؤلف الرواية التي تحولت إلى فيلم "السر في عيونهم".
وفي تشيلي، كتب أنطونيو سكارميتا عن انقلاب أوغستو بينوشيه العسكري، من منظور لاعب كرة قدم شاب. كما كتب مارتين كاباروس، الروائي والقاص الأرجنتيني، قصة فريقه الأرجنتيني المفضل "بوكا جونيورز".
منبوذ الفيفا محبوب الشعراء
لم يكن مارادونا ملهما لمحبي كرة القدم فحسب؛ بل للروائيين وكُتاب القصة القصيرة والشعراء والمسرحيين في قارة أميركا اللاتينية، التي تعتبر فيها كرة القدم، حقا، معبودة الجماهير.
بعنوان "اليوم، زمنك الحقيقي"، عنون الشاعر الأوروغواياني ماريو بينيديتي قصيدته التي أهداها للاعب الراحل دييغو مارادونا عام 2008. تقول القصيدة "اليوم، زمنك الحقيقي.. لا فضل لأحد عليك.. وحتى لو نسي الآخرون الاحتفاء بك.. ستبقى الليالي بلا حب بعيدة.. وبعيدا سيبقى، الحزن.. ستحيا بآخرين.. لا يهم ما تقول المرايا.. ما زالت لك عينان فتيتان.. تريان ولا تنظران أكثر مما يجب.. ستحظى بالحياة وستحظى بالموت.. ها هو عام يمر تلو عام.. وأنت تنتصر على ظلّك.. هللويا (سبحوا الرب)".
كان بينديتي معروفا بشغفه بكرة القدم مثل كثير من الأوروغوايانيين، وفي إحدى مقابلاته أظهر انزعاجه من الطريقة التي يتناول فيها الصحفيون حياة مارادونا، مظهرا تعاطفا وحزنا على ما آل إليه الأخير.
وفي مجموعته القصصية "مغلق بسبب كرة القدم"، وتحديدا في قصة "القرن 21" كتب الأوروغواياني إدواردو غاليانو عن مارادونا "وقد حُكِم على مارادونا أن يصدق أنه مارادونا وأجبِر على أن يكون نجم كل حفلة، وطفل كل معمودية، والموت في كل عزاء. النجاح هو أكثر تدميرا من الكوكايين. ولن يكون بمقدور تحاليل البول والدم أن تكشف عن هذا المخدّر".
وكم أثارت تصريحات وتصرفات مارادونا الجدل، لغرابتها وجرأتها واندفاعها. لم يكن مارادونا دبلوماسيا في حديثه، وكان ناقدا لكل ما لا يعجبه، فضلا عن حياته الشخصية المعقدة والمعروضة مجانا لأقلام وعدسات الصحفيين، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.
مع هذا، فيبدو أن حالة من التعاطف كانت تغلب على النصوص التي تتحدث عنه. غاليانو نفسه قال في كتابه الآخر "كرة القدم بين الشمس والظل" إن خطيئة مارادونا أنه الأفضل.
وفي عام 1995، تحدث غاليانو لمجلة "إلغرافيكو" عن مارادونا قائلا "علينا أن نفهمه في بعض الأحيان، دون أن نبرر له كل تصرفاته: أنا أيضا أكاد أنفجر غضبا من بعض أفعاله. بالفعل هو شخص يتحدث كثيرا، يقول ويتراجع عن كلامه، متعجرف، عنيد؛ لكن علينا أن نفهمه بل أن نشكره، من أجل الأشياء التي منحنا إياها. آمل أن يتابع عمله.. آمل ألا يعترض مارادونا طريق مارادونا".
هكذا فسّر غاليانو ظاهرة مارادونا، مارادونا اللاعب الفقير الذي شق طريقه بذكاء وحطم الحواجز الاجتماعية، والتفت حوله الجماهير على اختلاف أطيافها؛ بل رأته قديسا وأكثر من ذلك. ومارادونا آخر يحطم نفسه بالغرور أو التصرفات غير المسؤولة.
وبينما كان موقف غاليانو واضحا في كتاباته عن مارادونا، كما هو واضح في موقفه السياسي اليساري والقريب لفكر مارادونا، فإن رأي الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الحائز على نوبل للآداب 2010، كان مختلفا.
يُحسب يوسا على الاتجاه السياسي اليميني عبر الكثير من تصريحاته. أما رؤيته لمارادونا فلم تكن واضحة. عام 2006، نشر في مجلة "دينر" متحدثا عن مارادونا "ذلك الوجه الحالم الساذج المليء بالنوايا الحسنة، يستميل مثبطي العزيمة والمحبطين، وهم أنفسهم الذين يحيطونه ويعتنون به؛ إلا أن المؤكد هو أنه وفي لحظة النزول للملعب، يتقن اللعب بقوة -يمكن أن نقول- إنها لا تتوافق مع جسده".
بيد أن يوسا -المعروف بتناقض تصريحاته- انتقده خلال أحد لقاءاته في البرازيل عام 2013، بقوله "لم يعد الناس يرغبون الآن بالتقاط صورة مع كاتب؛ بل مع موسيقي أو لاعب مشهور مثل مارادونا، الذي لا يعرف التفكير سوى بقدميه".
ولئن كانت نية يوسا أن يقلل من أهمية مارادونا في تصريحه هذا؛ فقد مدحه في الحقيقة من حيث لا يعلم، فالقدم سر نجاح "البصل الصغير" كما يلقب مارادونا في الأرجنتين كناية عن قصر قامته.
المصدر : الجزيرة