لم يكن غريبًا أن يصف بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، قرار الأمم المتحدة الصادر السبت الماضي، بشأن طلب الرأي القانوني من محكمة العدل الدولية، حول احتلال فلسطين بـ(القرار الحقير)، مؤكدًا أنه لن يتعاون مع المحكمة في هذا الشأن، ذلك أنها ليست المرة الأولى التي تصدر فيها قرارات من المنظمة الأممية فيما يتعلق بإسرائيل دون تفعيل على أرض الواقع، فقد صدرت عشرات القرارات منذ عام 1948 حتى الآن، وكان رد الفعل الإسرائيلي دائمًا وأبدًا، مشابهًا لموقف نتنياهو، وإن كان في صور وأشكال متعددة.
في الوقت نفسه، لم يكن الموقف بمجلس الأمن الدولي أفضل حالًا، فقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الڤيتو) ضد 43 قرار، من بين 83 مرة استخدمت فيها هذا الحق بشكل عام، وهو ما شجع دولة الاحتلال طوال الوقت على الضرب عرض الحائط بالقوانين الدولية والقرارات الأممية في آن واحد، فلم تستجب للنداءات الدولية ذات يوم، كما لم توقع عليها عقوبات من أي نوع في أي وقت أيضًا.
وعلى العكس تمامًا، رأينا عملية الإطاحة بالأمين العام للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي من استحقاق فترة ولاية ثانية (بفيتو أمريكي)، نهاية عام 1996، لمجرد انحيازه لتحقيقات دولية أدانت المجزرة الإسرائيلية في قانا بلبنان، في موقع كان تحت إشراف القوات الدولية هناك، وكان قد سبق صدور قرار الإدانة، تهديدًا صريحًا لغالي من وزيرة الخارجية الأمريكية في إدارة بيل كلينتون آنذاك، مادلين أولبرايت.
الآن تعلن السلطة الفلسطينية إحصاءاتها مع بداية العام الجديد، موضحة ارتقاء 224 شهيدًا في عام 2022 فقط، بخلاف أكثر من 9000 جريح، دون أن يحرك ذلك ساكنًا للعالم بأسره وليس للمنظمات الدولية فقط، ولِمَ لا؟ وكان عدد الشهداء في العام السابق 2021 يصل إلى 357 شهيدًا، بخلاف 12 ألفًا و500 جريح، وهو الأمر الذي يؤكد أن دولة الاحتلال لا تأبه، لا لقرارات الإدانة، ولا لحجم الدماء وإزهاق الأرواح، في الوقت الذي تسير فيه عمليات التطبيع مع بعض الدول العربية بخطى ثابتة.
تزايد الضحايا
ومع اعتماد الكنيسيت هناك، نهاية الأسبوع الماضي، تشكيل الحكومة الجديدة، من المتوقع تزايد ضحايا آلة القتل الإسرائيلية خلال العام الحالي 2023، ذلك أنها الحكومة الأكثر تطرفًا على الإطلاق، بشهادة الساسة والحاخامات داخل إسرائيل وخارجها، حيث تم تشكيلها إلى جانب حزب الليكود برئاسة نتنياهو، من أحزاب دينية متطرفة ويمينية متشددة، لم تخف عزمها على التوسع في الاستيطان على حساب أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، ومن ثم فإنها سوف تكون أكثر همجية ولا مبالاة في التعامل مع القرارات الدولية في المستقبل.
ولا غرابة إذن في أن تصريحات نتنياهو المشار إليها، جاءت بعد 48 ساعة فقط من اعتماد حكومته، وبعد 72 ساعة أخرى قام المتطرف ايتمار بن غفير وزير الأمن القومي باقتحام المسجد الأقصى في حماية قوات الاحتلال، وهو ما أطلق عليه الأزهر في بيان شديد اللهجة: “سلوك همجي اقترفه مسؤول صهيوني شديد التطرف، وسط حراسة غاشمة تتبع الكيان الصهيوني، في مشهد إجرامي مخجل، من مسلسل تدنيس المقدسات الإسلامية”.
المتابع لردود الفعل العربية الرسمية تجاه الشأن الفلسطيني، سوف يكتشف أمرًا محزنًا للغاية، وهو تراجع القضية الفلسطينية -على الأصعدة كافة- كأولوية عربية في السياسة الخارجية، أو باعتبارها قضية العرب الأولى -كما كان يطلق عليها في السابق-، فلم تعد عمليات القتل الإسرائيلية تتصدر الأخبار، كما لم تعد عمليات التوسع الاستيطاني أو ممارسات الاحتلال عمومًا تجد مساحة في اهتمامات الساسة، بالتالي كان من الطبيعي ألا نسمع أي استنكار عربي لتشكيل حكومة بهذا الشكل المتطرف إلى حد الإرهاب، بل سمعنا من بعض العواصم العربية عن رسائل التهاني بتشكيلها، في الوقت الذي أصدر فيه حاخامات وساسة إسرائيليون بيانات شجب واستنكار لتشكيلها على هذا النحو.
فجوة كشفها المونديال
يأتي ذلك على الرغم من أن مونديال قطر كان كاشفًا للقيادات العربية، وللإسرائيليين في الوقت نفسه، وربما للعالم أجمع، أن هناك فجوة واسعة بين موقف الشعوب العربية والحكومات، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية تحديدًا، وما يستتبعها مما يسمى التطبيع، ذلك أن رفع العلم الفلسطيني طوال فعاليات المونديال، ورفض الجماهير العربية الحديث مع مراسلين إسرائيليين، ألقى بظلال واسعة على كيان الاحتلال ككل، من مسؤولين وغيرهم، وقد بدا ذلك واضحًا على مواقع التواصل الاجتماعي هناك، وعلى التناول الإعلامي الإسرائيلي، الذي أبدى دهشته من هذه الحالة، التي لم تكن أبداً في الحسبان، على حد تعبير الكثيرين منهم، وهو ما يجعلهم بالتأكيد يعيدون النظر في تعاملهم مع الأوضاع الراهنة.
إلا أن الغريب في الأمر، هو أن عمليات التطبيع تجري على قدم وساق على المستوى الرسمي في بعض العواصم، إعفاءات جمركية للبضائع هنا، وإلغاء تأشيرات هناك، زيارات حميمية هنا، واستثمارات كبيرة هناك، تغيير مناهج دراسية هنا، وفعاليات ثقافية وترفيهية هناك، بما يمنح سلطة التطرف الإسرائيلية الجديدة شرعية إضافية، لم تستطع الحصول عليها من كثير من عواصم أفريقية وآسيوية غير عربية، بل من دول أمريكا اللاتينية، وهو الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في الموقف العربي ككل، في ضوء المتغيرات الحاصلة على الساحة الدولية الآن، والمنتظر تطورها أيضًا على المدى القريب.
أعتقد أن قرارات الأمم المتحدة في حد ذاتها، لن تكون كافية في المستقبل للتعامل مع الحالة الجديدة في إسرائيل، ولا يمكن تفعيلها وترجمتها على أرض الواقع، دون دعم عربي حقيقي، ليس في المحافل الدولية فقط، وإنما في المقام الأول داخل المحيط العربي، الذي ما زال ينبض شعبيًا بالعروبة، ويعي أهمية الحفاظ على المقدسات التي تنتهك على مدار الساعة بأقدام جنود الاحتلال، وهو ما يحتم في الوقت نفسه العمل على إحياء دور جامعة الدول العربية، كي تواكب تحديات العصر، بعد أن أصبحت مجالًا خصبًا للتندر.
المصدر : الجزيرة مباشر