يتتبع تحقيق للمركز الفلسطيني للدراسات (الإسرائيلية) (مدار) التفكّك المتصاعد للتحريم الديني اليهودي على دخول الحرم القدسي الشريف والتنكّر لاتفاق “الوضع الراهن”، ويتوقف عند مشاريع بناء متزايدة لتشييد الهيكل الثالث المزعوم في باحات الأقصى.
قالت كاتبة التحقيق، الدكتورة هنيدة غانم، مديرة المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، إنه مع احتلال أراضي 1967 يتكرر في الخطاب العام الحديث عن الـ “ستاتوس كو” في الحرم القدسي الشريف، وفيما يدعو المجتمع الدولي والعربي والإسلامي إلى الحفاظ على الـ “ستاتوس كو” تدّعي إسرائيل أنها تحافظ عليه ولا تغيره. وفي السياق المحدد المرتبط بالحرم الشريف وإدارته بعد الاحتلال الإسرائيلي، يشير “ستاتوس كو” في الخطاب الإسرائيلي إلى التزام الحكومة، التي ترأسها في حينه ليفي أشكول، بالحفاظ على الوضع القائم في الحرم الشريف قبل احتلال عام 1967، وبقاء إدارة المكان بأيدي الأوقاف الإسلامية، إضافة إلى منع دخول المصلين اليهود واقتصار الزيارات على زيارات سياحية. وتستذكر أن القرار الإسرائيلي في حينه استفاد من وجود موقف ديني عام وصارم وقطعي يحرّم دخول منطقة الحرم الشريف على اليهود. وينبع هذا التحريم من الاعتقاد بأن “الهيكل”، الذي يعتبر أكثر الأماكن قداسة لليهود، موجود في هذه المنطقة، وفي قلبه، في أعلى درجات القداسة (قدس الأقداس)، والذي يعتقد أنه المكان الذي حفظ فيه سابقاً “تابوت العهد”، ونظراً لقداسته لا يجوز دخوله إلا للكاهن الأكبر، ومرة واحدة في العام، في ما يعرف بـ “يوم الغفران”، من أجل تقديم القرابين.
كما تستذكر هنيدة غانم أنه دينياً يخضع دخول منطقة الحرم لعدة درجات من التحريم إجمالاً، ويحتاج الدخول إلى طقوس تطهّر متشددة جداً، لا يمكن حالياً ضمانها. وبحسب أغلب الاجتهادات الدينية اليهودية، فإنه نظراً لعدم إمكانية ضمان الطهارة من جهة، ومن جهة أخرى لعدم إمكانية تحديد موقع “الهيكل” الدقيق، وبالتالي عدم إمكانية تحديد مكان قدس الأقداس، يمنع على اليهود دخول ساحات الحرم.
يشار إلى أنه، وبحسب التشريعات، هناك أسباب كثيرة تؤدي إلى النجاسة، من بينها لمس الميت، وبما أن أغلب اليهود لامسوا أجساداً ميتة، أو لامسوا من لامسها، فقد تنجّسوا. وللتطهر من النجاسة، بما فيها النجاسة من لمس الميت، يجب التطهر ببودرة بقرة حمراء ممزوجة بماء نبع، ولأنه لم يتم حتى اليوم العثور على بقرة حمراء صافية الحمرة، فإن التحريم ما زال قائماً على حاله، بمعنى آخر فإن التحريم لا يرتبط بسؤال الاعتقاد حول الحق اليهودي المطلق على الحرم، بل باشتراط الدخول بالتطهر الذي لا يمكن تحقيقه حالياً.
تحريم شرعي
وتتابع غانم في تحقيقها: “تاريخياً، لا يُعرف متى بدأ التحريم، وكيف، لكن الاعتقاد بالتحريم تحول إلى جزء من العقيدة الدينية، واعتُبر بمثابة شأن مفروغ منه. لم يتم تجاوز هذا التحريم إلا في حالات نادرة في القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وقوبل هذا التجاوز باستنكار وبغضب شعبي وديني شديد. فمثلاً؛ في العام 1855، خلال زيارته لفلسطين، قام السير موشيه مونتفيوري، وهو متبرع يهودي شهير، برفقة زوجته والقنصل البريطاني جيمس فن، بالدخول إلى ساحة الحرم والتجوال فيه. هذه الزيارة أثارت غضب الجالية اليهودية في البلاد، وأعلنت عدة كنس عن مقاطعته وفرضت الحرمان عليه، ولم يتم فك هذا الحرمان إلا بعد أن تم توبيخ مونتفيوري وتحذيره بأن لا يكرر ذلك”.
زيارة روتشيلد
وتوضح أن المرة الثانية هي زيارة البارون روتشيلد، في ربيع 1887، والتي أثارت أيضاً الغضب والاستنكار، وقد عبّر يهودا هكوك، الذي يعتبر بمثابة الأب الروحي المؤسس للصهيونية الدينية الاستيطانية والحاخام الأكبر للمستعمرات الصهيونية، عن حزنه وغضبه من هذه الزيارة، وكتب عن ذلك في 1914: “لقد سُحق قلبي بسبب تدنيس اسم الرب في الهيكل، وبالأخص عدم تحذير أحد له (يقصد روتشيلد) من أن ذلك ممنوع. إن عيباً واحداً يمس قدسية البيت (الحرم) يفوق بالنسبة لنا أهمية ملايين المستوطنات العملية”. وكان كوك توجه في 1913 برسالة خاصة إلى إدارة مدرسة “جمنسيا هرتسليا” يدعوهم فيها إلى ضرورة الالتزام بالتقييدات عند زيارتهم القدس، وجاء من ضمنها: “أن لا يتم تدنيس حرمة الدين وكل مقدس، مثلاً تدنيس السبت خاصة بالعلن، ومنع الدخول لمكان الهيكل”.
مع دخول جيش الاحتلال باحات الحرم الشريف قام الجنود المحتلون برفع العلم الإسرائيلي على قبة الصخرة، وبقي عليها عدة ساعات، قبل أن يأمر موشيه دايان بإنزاله.
اعتبارات أمنية
وجاء قرار إسرائيل الحفاظ على الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف، في إثر المخاوف حينها من تفجّر الأوضاع حوله، خاصة في ظل سكرة القوة ونشوة الانتصار التي اجتاحت الجمهور العلماني والديني معاً، وظهور مساعٍ أولية لبناء “الهيكل الثالث” مكان الحرم، باعتبار ذلك تتويجاً للسيادة اليهودية التي تدعي أن “جبل الهيكل” درة التاج، والذي تظل السيادة اليهودية منقوصة بدون تشييده.
ويشير “مدار” إلى أنه كان من بين الشخصيات التي رافقت كتيبة المظليين، التي احتلت البلدة القديمة داخل أسوار القدس، الحاخام العسكري لجيش الاحتلال شلومو غورن الذي تردد وتخبط، بحسب عدة شهادات، في كيفية التصرف تجاه الحرم الشريف، وراودته حينها أفكار حول كيفية السيطرة على الحرم وإقامة الهيكل. وبحسب عوزي بنزيمان، الصحافي الإسرائيلي، فقد خبر الحاخام غورن تخبطات شديدة مع دخوله أسوار البلدة القديمة حول سؤال بناء الهيكل وسؤال السماح لليهود بدخول باحات الأقصى، وحتى سؤال تفجير المسجد في باحاته.
التفكير بتفجير المساجد
ونقل نداف شرغاي في كتابه “جبل الخصومة” شهادات عن أن الحاخام فكر جدياً بإمكانية تفجير المساجد كخطوة في سبيل تشييد الهيكل، بل إن غورن شارك أفكاره مع قيادات الجيش حول ذلك. من ناحية غورن، فإن تحقيق بناء الهيكل المزعوم هو خلاصة تحقيق الخلاص المسياني، كما جاء في سفر إشعياء، الإصحاح الثاني 2.3.4 “ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم وتسير شعوب كثيرة، ويقولون: هلمّ نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله. لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب. فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفاً، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد”.
العلم على الصخرة
وتستذكر الباحثة هنيدة غانم أنه مع دخول جيش الاحتلال باحات الحرم الشريف قام الجنود المحتلون برفع العلم الإسرائيلي على قبة الصخرة، وبقي عليها عدة ساعات، قبل أن يأمر موشيه ديان، وزير الأمن حينها، بإنزاله. عن أسباب ذلك كتب دايان لاحقاً: “إن كان هناك شيء يجب ألا نفعله في القدس فهو رفع أعلام إسرائيلية على مسجد عمر وقبر المسيح”، وأضاف: “علينا أن نعتبر “جبل الهيكل” بمثابة موقع تاريخي، وعدم مضايقة العرب في التصرف فيه كما هو الآن- مسجد صلاة إسلامي”.
وأعلن ليفي أشكول، في حزيران 1967، استمرار الوضع القائم، الذي يدير بموجبه الوقف الحرم الشريف، وفي آب 1967 اتخذت اللجنة الوزارية للحفاظ على الأمكنة المقدسة، التي عينتها الحكومة، قراراً أوعزت بموجبه للحاخام شلومو غورن بـ “الامتناع عن أي نشاط لتنظيم صلوات، من قياسات وما شابه على “جبل الهيكل”، وأمرت في حال قيام يهود بالدخول للصلاة في باحات الحرم بإخراجهم من قبل الجيش. وكان موقف موشيه ديان ومن ثم موقف حكومة ليفي أشكول مبنياً على حسابات مرتبطة بالعلاقات الدولية، وعلى مخاوف من تفجر الأوضاع مع العالم الإسلامي في حال تغيير الوضع القائم، وعلى قلق من أن يؤدي أي تغيير إلى ضغط دولي على إسرائيل للانسحاب من الأراضي التي احتلتها.
وتضيف: “في هذا السياق كتب البروفسور أفيغدور ليفونتين، المختص بالقانون الدولي: “توجد مخاوف من أن تقوم جماعات متطرفة بالادعاء أنه بما أن “جبل الهيكل” في أيدينا، فقد آن الأوان للقيام بعمل متطرف: بدءاً من إقامة الهيكل في طرف الطيف، ووصولاً إلى توسيع أو تشديد مادي للسور الغربي لـ “جبل الهيكل” على حساب أقسامه الأخرى غير اليهودية”.
جماعات الهيكل
ويوضح “مدار” أن أولى الحركات التي أقيمت بعد الاحتلال من أجل “تهويد الحرم” وبناء الهيكل، هي حركة أمناء الهيكل التي أقامها غرشون سلومون (1935-2022)، الذي كان عضواً في حركة حيروت، ولاحقاً في حزب “تحيا” اليميني العلماني المتطرف، وكان أكثر الداعمين للحركة نشطاء من قدامى منظمتي الليحي والإيتسل الإرهابيتين، فيما أدينت من قبل أغلبية المؤسسة الدينية والحاخامات. ويقول إنه على خلاف الحركات التي ستأتي لاحقاً تميزت حركة أمناء الهيكل ببعدها القومي وليس الديني، حيث واظبت حركة أمناء الهيكل على القيام بنشاطات لتغيير الوضع القائم واقتحام ساحات الحرم، وفي تشرين الأول 1990 أعلنت الجماعة عن نيتها وضع حجر الأساس للهيكل في ساحة الحرم، ما أدى إلى اندلاع مواجهات شديدة في الحرم واقتحام القوات الإسرائيلية لساحة الحرم واستشهاد 17 فلسطينياً. وفي منتصف الثمانينيات ظهرت أول حركة دينية يتزعمها حاخام من الصهيونية الدينية (معهد الهيكل)، وكانت هذه الحركات في بدايتها هامشية وصغيرة، ولم تحظ بدعم شعبي، واستمرت الحاخامية الرسمية والتيارات الدينية المركزية في اعتبار دخول باحات الأقصى بمثابة خطيئة كبرى.
اتفاق أوسلو وبداية تفكك الوضع الراهن
وينبه “مدار” إلى أن التحريم الذي بدأ شبه شامل راح يتفكك تدريجياً بضغط العامل القومي، وبفعل التحول المستمر في الصهيونية الدينية نحو القومية الاستيطانية المسيانية (الغيبية)، ويمكن تتبع بذور هذا التفكك في التنظيم الإرهابي الذي انتمى أغلب أفراده إلى الصهيونية الدينية في نهاية السبعينيات، فهذا التنظيم نفّذ عدة تفجيرات استهدفت رؤساء بلديات منتخبين في الضفة، إضافة إلى هجمات إرهابية على طلبة الكلية الإسلامية في الخليل، وتم الكشف عن أنه خطط لتفجير قبة الصخرة في 1984، من أجل تسريع تحقيق الخلاص الرباني، ومن بين قياداته الصهيونية الدينية الصحافي حجاي سيغل، الذي يشغل حالياً منصب المحرر الرئيسي لصحيفة “مكور ريشون” الاستيطانية، ووالد الصحافي في القناة العبرية 12 عميت سيغل، والحاخام يهودا عتصيون، المعروف بنشاطه الاستيطاني، وبسعيه من أجل تحقيق تهويد الحرم.
ويشير “مدار” إلى أنه، رغم ذلك، ظل التحريم على دخول الحرم هو الموقف الرئيس في الصهيونية الدينية والدينية الحريدية والمؤسسة الدينية الرسمية، لكن موقف الصهيونية الدينية بدأ يتخلخل بشدة على خلفية اتفاقيات أوسلو، ورفض هذه الجماعات لأي انسحاب من الأراضي المحتلة، ووصل هذا الموقف إلى نقطة غير مسبوقة في 26 كانون الثاني 1997، عندما أصدرت لجنة حاخامات المستوطنات منشوراً رسمياً تضمن فتوى تسمح بالدخول إلى الحرم الشريف، وفيه دعت الجمهور لـ “الصعود إلى جبل الهيكل” ووضعت مجموعة إرشادات دينية عن كيفية التحضر والتطهر من أجل ذلك. ومن بين الذين تبنوا الموقف الجديد، الذي يسمح بالدخول للحرم بعد “التطهر”، مجموعة من الصف الأول المؤثر في الصهيونية الدينية، مثل الحاخام حاييم دروكمان، الحاخام دوف ليئور، الحاخام ناحوم إليعازر رابينوفيتش، الحاخام إليعازر فيلدمان، إضافة الى الحاخام يسرائيل أريئيل رئيس “معهد الهيكل”.
من التحريم إلى القبول
ولخص عضو الكنيست السابق عن “الليكود” يهودا غليك الآثار التي ترتبت على الانتقال من التحريم إلى القبول من قبل حاخامات الاستيطان، خلال مقابلة تلفزيونية معه في 7 أيار 2012: “حين صعدت أول مرة إلى جبل الهيكل في العام 1990، كنا ندخل واحداً واحداً. اليوم ندخل بمجموعات من خمسين. حينها كان بصعوبة يوجد عدد من اليهود (الذي يمكن عبره إقامة صلاة) بسبب الأحكام الشرائعية. اليوم يوجد أكثر وأكثر، وقد حققنا خطوات عظيمة. إن موضوع الهيكل وجبل الهيكل أصبح اليوم موقفاً مركزياً عاماً في التيار القومي”.
عشرات الجماعات
وبموجب تحقيق “مدار”، تعد “جماعات الهيكل” اليوم بالعشرات، ومن بينها جماعات تدفع إلى بناء الهيكل المزعوم على خرائب الحرم الشريف، مثل “معهد الهيكل”، “الحركة من أجل إنشاء الهيكل”، “الوقف- كنوز الهيكل” و”نساء الهيكل”، وحركة “أمناء الهيكل” التي وصل عدد المتطوعين في صفوفها في 2012 إلى 957 متطوعاً، وكذلك جمعية “إلى جبل موريا (إل هار همور)”، إضافة الى حركات تعمل على تحضير أدوات الطقوس المطلوبة من أجل العبادة بالهيكل، مثل “معهد الهيكل- بيت الفنان العبري”، وغيرها. وتصل التحضيرات من أجل تحقيق المشاريع المسيانية في بعض الجمعيات إلى درجات عالية من التخطيط الحثيث، ومتابعة كل التفاصيل المرتبطة بالهيكل المرجو مثل: مخطط المعبد وغرفه، والأواني، والملابس، والنباتات، والألوان، وحجارة الصدرة. ونظراً لارتباط الطقوس بالتطهر، واشتراطها، كما ذكر أعلاه، بالتطهر برماد بقرة حمراء، فقد أطلق معهد الهيكل، في تموز 2015، مشروعاً جديداً لتحقيق ذلك من خلال: “إخصاب مخبري بهدف توليد بقرة حمراء”، وأعلنت الجمعية من على صفحتها تحت عنوان: “خبر سار”.
تحريم دخول الحرم لا يرتبط بسؤال الاعتقاد حول الحق اليهودي المطلق على الحرم، بل باشتراط الدخول بالتطهّر الذي لا يمكن تحقيقه حالياً.
البقرة الحمراء
وبموجب تحقيق “مدار” عمل “معهد الهيكل” بهدوء ومواظبة منذ إنشاء الصندوق من أجل البقرة الحمراء، بمساعدة بقّارة محليين. أسس “معهد الهيكل” عدة أماكن ممكنة في أرجاء البلاد من أجل تربية أبقار حمراء محتملة. ويتابع: “مؤخراً، يراقب المعهد عن كثب ولادة أبقار من صنف أنجوس في مكان محروس، منها يأمل في إيجاد أبقار حمراء صالحة للاستخدام في المعبد. بالإضافة الى ذلك فقد تم تحضير وتوفير الملابس الخاصة للكهنة وعرضها للبيع على الموقع، حيث يبلغ سعر اللباس الكامل 5000 شيكل (نحو 1300 دولار). ناهيك عن انهيار التحريم الديني، وتوسع دائرة المقتحمين للحرم من التيارات الصهيونية الدينية، إضافة للقومية العلمانية، والمساعي المحمومة لتهويد الحرم الشريف، وصولاً لبناء الهيكل، فقد عملت قيادات اليمين التي تتوافق والصهيونية الدينية على فكرة “أرض إسرائيل” والسيادة على الحرم الشريف وتهويده، على الدفع نحو تغيير الوضع القائم”.
وطبقاً لـ “مدار”، انهار التزام إسرائيل (الشفوي) بالـ “ستاتوس كو” الذي وضعته حكومة أشكول، في 1996 مع قيام حكومة بنيامين نتنياهو الأولى بافتتاح نفق أسفل المسجد الأقصى، وانهار بشكل كامل مع اقتحام أريئيل شارون، زعيم الليكود، في 2000 للحرم، ومن ثم تفجّر الانتفاضة الثانية، وفي أعقاب ذلك أغلقت ساحات الحرم أمام اليهود لمدة ثلاثة أعوام، واستؤنفت من جديد في 2003 على أساس جديد بموجبه تقوم الشرطة الإسرائيلية بتحديد عدد ونوع الزوار الذين يدخلون باحات الأقصى من اليهود.
ويوضح “مدار” أيضاً أنه في إطار هذا التغيير أصبح يُتاح لمجموعات أيديولوجية مسيانية كبيرة بالدخول لباحات الحرم بأعداد تصل إلى 50، ثم تزايدت الأعداد لاحقاً، فمثلاً في آب 2003 اقتحم 150 مستوطناً باحات المسجد الأقصى، وحاولوا أداء طقوس “دينية” بداخله، كما تزايد باضطراد عدد قوات الأمن التي تتجول في باحات الحرم، وأصبحت شرطة الاحتلال تتدخل بشكل أوسع في إغلاق ساحات الحرم أمام المصلين، ناهيك عن منع الأوقاف من القيام بأي ترميم أو إصلاحات داخل مباني المساجد، ومنع دخول المصلين من الأراضي المحتلة من الضفة الغربية وقطاع غزة.
اقتحامات الوزراء
ومنذ 2009 أصبحت الاقتحامات تتم بمرافقة وزراء وسياسيين، منهم أعضاء في الليكود، مثل موشيه فيغلين ويهودا غليك، وأصبحت هذه الاقتحامات محل منافسة واستعراض بين اليمين، ففي تشرين الثاني 2014 نشر الوزير أوري أريئيل فيديو له وهو يقف بجانب قبة الصخرة ويتلو بركة الكهان. في أيلول 2015 فتح الحرم لأول مرة أمام يهود في يوم الغفران، وقام 37 مستوطناً بدخوله، وصلى 60 يهودياً في الكنيس المتاخم في بناية المحكمة، والذي يتم التعامل معه من قبل الحاخامات كمكان مقدس، إذ يعتقدون أن نصفه مبني في باحات الحرم.
أعداد المقتحمين
وتظهر متابعة الإحصائيات التصاعد المثابر والمستمر للاقتحامات الجماعية التي أصبحت تتكرر يومياً تقريباً، وبحسب الإحصائيات المتوفرة، اقتحم 37708 مستوطنين باحات الأقصى في العام 2019 وفي العام 2020، وبسبب تشديدات كورونا انخفض العدد إلى 19814، ثم ارتفع مجدداً إلى 34779 في العام 2021، ووصل إلى رقم غير مسبوق في العام 2022 حيث اقتحم المكان، بحسب الأوقاف الإسلامية، 48238 مستوطناً. ويمكن القول إن تحوّل موقف الصهيونية الدينية من المنع المطلق من دخول الأقصى نحو التقبل الواسع، يظهره بشكل جليّ الاستطلاع الذي أجري في 2014 بين جمهور المتدينين الصهيونيين، حيث أجاب 75.4% بأنهم يدعمون دخول اليهود إلى باحات الحرم، وفقط 24% أعلنوا معارضتهم، وأجاب 19.6% بأنهم قد دخلوا الحرم، وأشار 35.7 % إلى أنهم لم يقوموا بذلك، لكنهم ينوون القيام به.
وتتابع: “بذا أصبح الـ “ستاتوس كو” مجرد مقولة لزجة في الفعل السياسي والممارسة على أرض الواقع، بعد أن أصبح يتم تغييره وفق ما تريده الشرطة الإسرائيلية، ومن فوقها الحكومة القائمة”.
الخلاصة
ويقول تحقيق “مدار” إنه على الصعيد الديني، ورغم التحول المتصاعد في اتجاه الصهيونية القومية، واتساع دائرة الحاخامات من الخلفيات القومية التي تدعم اقتحامات الحرم، وتسعى لإقامة الهيكل على خرائب الأقصى، من المهم الإشارة إلى أن موقف الحاخامات الحريديم من التيارين الغربي والشرقي وموقف الحاخام الأكبر في إسرائيل ما زال يحرم بشكل قطعي الدخول إلى باحات الأقصى. ويستذكر التحقيق نشر الحاخامية المركزية في إسرائيل في 2004 بياناً يكرر موقف التحريم الديني القاطع من دخول باحات الحرم الشريف على اليهود، ووقع على البيان كل من عوفاديا يوسف، الزعيم الروحي لحركة شاس، والحاخام الأكبر في إسرائيل يونا متسيغر، وشلومو عمار الحاخام الأكبر للسفارديين. وفي هذا الإطار جاء تصريح النائب موشيه غفني، رئيس حزب يهدوت هتوراه، الذي عبر عن استيائه من قيام إيتمار بن غفير باقتحام الأقصى متسللاً، واعتبره مناقضاً للشرائع اليهودية، وكذلك موقف الحاخام الأكبر لإسرائيل إسحق يوسف، الذي وجه رسالة احتجاج شديدة لبن غفير كررت الموقف الديني الذي يحرم دخول باحات الحرم. أما في الصهيونية الدينية التي يتبعها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش فالمواقف حتى اللحظة غير محسومة، إذ هناك من يعارضون بشدة، فيما دعم ذلك الحاخام حاييم دروكمان، المتوفي حديثاً”.
وتخلص الدكتورة هنيدة غانم في تحقيقها الهام إلى القول: “ضمن هذا المشهد، من المتوقع أن يشكل الموقف من الحرم واقتحاماته إحدى نقاط الخلاف في حكومة نتنياهو الحالية بين التيار الحريدي المعارض والتيار القومي اليميني، الذي يمثله بن غفير مع توقعات بأن تتوسع في صفوف الصهيونية الدينية الحردلية باضطراد دائرة الدعم نحو تبني موقف بن غفير”.