على باب إحدى شركات تقسيط الأجهزة الكهربائية في شمال غزة، يقف (فؤاد. س) يتلقّف كل مواطن جاء لشراء جهاز بنظام التقسيط ليسأله: "أتريد بيعه؟".
المواطن فؤاد -الذي رفض ذكر اسمه كاملا- يعمل موظفا لنفس الشركة التي يذهب إليها المواطنون للشراء بالتقسيط، ويشتري الأجهزة الكهربائية نقداً (كاش) ليُعيد بيعها لنفس الشركة دون عِلم أحد.
ما يفعله فؤاد هو ما يتعارف عليه بين الناس (بالتكييش)؛ أي شراء السلع بالتقسيط بسعر مرتفع، وبيعها فورا نقدا (كاش) بسعر منخفض.
عمل منظّم
"الرسالة" فتحت ملف (التكييش) في قطاع غزة، لتجد تجارا متنفذين يمتهنونه ويحققون أرباحا غير مشروعة بمبالغ كبيرة، مستغلين حاجة المواطنين للسيولة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
المواطن فؤاد، الذي تحدث لمعد التحقيق بعد محاولات إقناع متكررة، كونه يعلم أن عمله غير قانوني، قال: "أغلب من يشتري السلع بالتقسيط يذهب لبيعها بسعر منخفض، ويخسر ما بين (30 - 40) % من قيمتها، وبالتالي يعتبر شراء هذه الأجهزة مجددا عملية مربحة".
عامل بالتكييش: نحقق أرباحا تقدّر بـ 40% من قيمة السلعة
وأوضح أن العمل على شراء السلع المقسّطة بنظام الكاش، لم يكن منتشرا قبل عامين بهذا الشكل المنظّم، مؤكدا أن التكييش بات منظما خلال الشهور الأخيرة لكثرة العاملين به.
وبيّن فؤاد أن الشركة التي يعمل بها وقّعت على تعهد بعدم العمل بنظام التكييش، وهو ما دفع صاحبها للدفع به للعمل أمام باب المحل بشكل خفي.
ولفت إلى أنه يعمل مع الشركة دون علم أحد، "حتى لا تقع الشركة في مشاكل قانونية ومخالفات مع وزارة الاقتصاد".
ووفق جولة أجرتها (الرسالة) على عدد من المحال المتخصصة في بيع الأجهزة الكهربائية، فإن العديد من المحال لا زالت تتعامل بنظام التكييش ولم ترتدع من إجراءات الحكومة بالخصوص؛ لأن العملية توفر ربحا كبيرا وسهلا.
أنظمة وقرارات
وفي بيان صدر عن وزارة الاقتصاد في وقت سابق، أكدت فيه أنها ستتخذ المقتضى القانوني بحق كل من يمارس التكييش في قطاع غزة، محذرةً من التعامل به.
وقالت الوزارة إنها عمدت إلى إصدار أنظمة وقرارات تنظم عمل المؤسسات المالية في قطاع غزة، أهمها: حظر العمل في مجال الفوركس، وحظر التسويق الهرمي والشبكي، وحظر نظام التكييش وإصدار نظام البيع بالتقسيط، وإصدار نظام ضبط أعمال مؤسسات الإقراض والتمويل.
الاقتصاد: نحذّر الشركات من التكييش وسيحاسب المخالفون قانونيا
وأوضحت الوزارة أنها استقبلت 30 شكوى متعلقة بالمؤسسات المالية ومخالفتها للأنظمة المعمول بها، وكذلك أخطرت 70 شركة مالية مخالفة لتصويب أوضاعها القانونية، وأخذت تعهدات لـ 52 من الملفات المالية المخالفة بالتعاون مع الوحدة القانونية، وحولت 12 مؤسسة مخالفة للنيابة العامة.
ووفق المعطيات على الأرض التي عاينتها (الرسالة)، فإن السيطرة على التكييش يعد صعبا، وما يمكن للجهات الحكومية فعله ينحصر في الحد من الظاهرة بدرجة بسيطة.
ولا يمكن التخلص من ظاهرة التكييش في غزة إلا بإنهاء جميع الظواهر المسببة لها، مع العمل الجاد على مضاعفة المعروض النقدي في الأسواق بعدة طرق أهمها رفع نسبة رواتب الموظفين وضخ الاستثمارات.
وبسبب التكييش يفقد المستهلكون أموالا من قيمة السلع -التي يحولونها إلى سيولة- تصل إلى أكثر من 30%.
ومؤخرا، أصدر المجلس الأعلى للقضاء في قطاع غزة، قرارا بوقف استقبال أي قضايا جديدة مقدمة من شركات التكييش بهدف الضغط عليها لوقف التعامل بهذه الآلية.
وذكر المجلس الأعلى أن القيمة الإجمالية للشكاوى المقدّمة في محاكم غزة من شركات التكييش تبلغ (5.2 مليار دولار).
ورفض المجلس الأعلى للقضاء التعقيب لمعد التحقيق على البيان أو قضية التكييش، في وقت أكد أن العمل مع الجهات المختصة يجري على قدم وساق لإيجاد الحلول لهذه الظاهرة السلبية.
وتجدر الإشارة إلى أن عملية التكييش أدت إلى تدهور الوضع المادي لعشرات الموظفين، وهو ما أدى لتقديم العديد من القضايا بحقهم والحجز على رواتبهم.
استعراض النظام
المواطن سالم شكري، اضطر للتوقيع على كمبيالة فارغة مقابل الحصول على ثلاجة بسعر 3200 شيكل، من إحدى شركات التكييش.
وقال سالم لـ "الرسالة": "سعر الثلاجة بالسوق 2400 شيكل، واشتريتها بسعر مرتفع بسبب حاجتي للسيولة، وتفاجأت بطلب صاحب الشركة توقيعي على كمبيالة فارغة".
مواطن: وقعت على (كمبيالة فارغة) وخسرت 42% من قيمة السلعة
وأشار سالم إلى أنه دفع سعرا أعلى بـ 25% من قيمة الثلاجة في السوق، واضطر لبيعها بالكاش بسعر ألفي شيكل ليفقد 17% من قيمتها أيضا.
وبجانب المخاطرة بالتوقيع على كمبيالة فارغة، التي يعتبرها القائمون على شركات التكييش بمثابة (ضمان حق)، خسر سالم الذي يعمل كموظف في مؤسسة خاصة، 42% أموالا إضافية على ثمنها.
وأكد أنه يعيش في أوضاع اقتصادية صعبة؛ بسبب كثرة الاستحقاقات الشهرية المتراكمة عليه، مشيرا إلى أنه نفذ 4 عمليات تكييش على سلع وأجهزة كهربائية مختلفة.
المستشار القانوني لوزارة الاقتصاد الوطني، يعقوب الغندور، ذكر أن البيع بالتقسيط هو نوع من البيوع الآجلة التي يتم تحديدها بين البائع والمشتري.
وقال الغندور في حديث لـ "الرسالة"، إنه يشترط في عملية البيع بالتقسيط أن تتم من خلال شركة أو مؤسسة مرخصة من الوزارة حسب النظام والقانون.
وبيّن الغندور أن النظام لا ينطبق على القروض الممنوحة للأشخاص من البنوك والمؤسسات المالية أو صناديق الضمان الاجتماعي وعقد الإيجار المنتهي بالتمليك وعقد الإيجار التمويلي، والمعاملات التي تقل آجال دفعها عن ثلاثة أشهر بمبالغ بسيطة.
وأضاف: "يجب أن يكون عقد البيع محررا من نسختين أصليتين، وأن يتضمن جميع البيانات عن البائع والمشتري، ومقدار الثمن ومبالغ الدفعات".
إجراءات جديدة
ووفق مصدر مطلع، فإن عملية الحجز على الرواتب في ظل وجود الكثير من القضايا باتت غير مجدية بالنسبة للشركات، لذا لجأ العديد منها إلى كتابة الكمبيالات بمبالغ خيالية فوق المليون دولار؛ حتى يتم حجز كل الراتب كون نصاب الربع يغطي دائنا واحدا فقط.
وقال المصدر الذي يعمل في إحدى محاكم قطاع غزة، في مقابلة مع "الرسالة"، إن تراكم المبالغ بأسعار عالية شكّل مشاكل اجتماعية واقتصادية خطيرة.
وأوضح أن ذلك الأمر جعل الحكومة في غزة تسرع بتشكيل لجنة حكومية موسّعة لدراسة الملف بالاشتراك مع الجهات الرسمية ذات الصلة.
وبيّن أن قرار المستشار ضياء المدهون، رئيس المجلس الأعلى للقضاء، بتعليق العمل مع قضايا شركات التكييش يعني عدم قبول قضايا تنفيذية جديدة من عدد 128 شركة وفردا من الذين تم إدراج أسمائهم بالكشوف، وهذا التعليق مؤقت.
القضاء الأعلى: قيمة الشكاوى المقدّمة من شركات التكييش 5.2 مليار دولار
وتوقع المصدر أن تلجأ اللجنة الحكومية التي شكلت لهذا الخصوص، لجمع قاعدة بيانات من جميع الشركات والأفراد الذين يعملون بهذا النظام، "وبناءً عليها سيتم تحديد المبالغ الحقيقية من المبالغ الوهمية، وهذا كمرحلة أولى".
ولفت إلى أنه سيتم فتح باب الشكاوى أمام المواطنين لدى اللجنة ليتم مطابقة المعلومات مع البيانات المقدمة من الشركات.
كما سيتم مراجعة ما يسمى بالمعاملات الثابتة (قروض البنوك والاستقطاعات البنكية).
وكشف المصدر عن آليات تتم لعمل تسوية وفق نظام سيصدر عن وزارة الاقتصاد لوضع نسبة محددة في حال عدم الالتزام بالدفع، بما لا يتجاوز نسبة مئوية يتم تحديدها من متخصصين قانونين.
وبالعودة للغندور، أكد أنه "يجب أن يكون ثمن المبيع بالتقسيط نهائيا، ولا يمكن في أي حال من الأحوال تغييره مهما كانت الأسباب".
وكذلك لا تزيد نسبة الزيادة عن 5% عن السنة الواحدة وبحد أقصى بنسبة 30% مهما بلغت سنوات التقسيط، ويجب على البائع بالتقسيط أن يمكّن المشتري بالتقسيط من ممارسة الحق في العدول عن الشراء خلال عشرة أيام عمل.
كما يجوز للبائع أن يشترط في عقد البيع بالتقسيط رهنا أو كفالة يقدمها المشتري، وتعد المخالصة عن القسط مخالصة عن الأقساط السابقة عليها، ما لم يتفق عليها خلاف ذلك.
وشدد الغندور على أنه لا يجوز للبائع بالتقسيط إعادة شراء المبيع من المشتري بأقل من السعر الذي باعه إلا في حال اعترى المبيع عيب.
ولفت المستشار القانوني لوزارة الاقتصاد الوطني، إلى أنه يجوز لمفتشي الوزارة الممنوحين صفة الضبطية القضائية الدخول إلى الأماكن التي تزاول النشاط والاطلاع على السجلات والمستندات.
وشدد على أن أي تاجر يخالف أحكام هذا النظام يعرض نفسه للمساءلة القانونية.
نقص السيولة
المختص في الشأن الاقتصادي، الدكتور أسامة نوفل، أكد أن ظاهرة التقسيط أخذت منحى سلبيا؛ بسبب حاجة المواطنين للسيولة العاجلة التي وجدوها متوفرة في التكييش.
وقال في مقابلة مع معد التحقيق، إن التكييش ظاهرة اقتصادية سلبية، "تعمل وزارة الاقتصاد على محاربتها ومنعها باستمرار".
اقتصادي: التكييش أخذ منحى سلبيا بسبب حاجة المواطنين للسيولة العاجلة
وأوضح أن هناك ملايين الدولارات التي تسير في الاقتصاد الفلسطيني بظاهرة التكييش، داعيا المستهلكين إلى عدم التوقيع على أوراق (كمبيالات وغيرها)" عند شراء السلع بالتقسيط، خصوصا إذا كان المبلغ الموقّع عليه أعلى من سعر السلعة.
وشدد على ضرورة التخلص من جميع الظواهر المسببة للتكييش للقضاء عليه، والعمل الجاد على مضاعفة المعروض النقدي في الأسواق بعدة طرق أهمها رفع نسبة رواتب الموظفين وضخ الاستثمارات.
ولفت إلى أن المستهلكين يفقدون أموالا من قيمة السلع التي يحولونها إلى سيولة قد تصل إلى أكثر من 30%.
ورغم الإجراءات الحكومية الهادفة للقضاء على ظاهر التكييش، إلا أن السيطرة عليها تبدو صعبة في ظل العمل فيها بالخفاء وعدم وجود عقوبات رادعة حتى اللحظة.