من شخص لآخر تنتقل أي حكاية أو حدث أو معلومة، ثم ما تلبث أن تتعاقبها الأجيال وتتوارثها نصا مكتوبا أو مسموعا أو مرئيا، ولعل أفضلها ما يجمع تلك العناصر معا ولا يُبقي على تناقلها شفهيا، حتى يموت صاحبها أو يتيه ناقلها قبل أن تصبح رواية تتكامل عناصرها لتغدو حقيقة دامغة تثبت حقا راسخا، لا سيما إذا كان كحق الشعب الفلسطيني في وطنه وأرضه.
وحينما تتعلق الرواية بالذاكرة الفلسطينية تختلف الموازين، وتصبح الحاجة أكثر للتوثيق والوقوف على كل التفاصيل، وأن تصل لأكبر عدد من الناس، وهو ما حرص عليه المركز الثقافي للذاكرة والرواية الفلسطينية بمدينة نابلس بالضفة الغربية، وتميز بآلية عرض لهذه الذاكرة بما يخلدها ويجعلها دائمة الحضور.
ويقول عدنان عود مدير المركز الثقافي للذاكرة والرواية الفلسطينية -الذي يتخذ من مدينة نابلس مقرا له- إن هذه الذاكرة الفلسطينية بات مهما توثيقها بكل حذافيرها لمواجهة تغوّل الرواية والدعاية الاستعمارية الكاذبة عليها، ومحاولات الاحتلال (الإسرائيلي) للنيل منها.
ويضيف عودة في حديث للجزيرة نت أنه "أمام هذا التغول والتحريف (الإسرائيلي) صار على الفلسطيني أن يثبت روايته ويعيدها إلى الأجيال المتعاقبة العربية والفلسطينية -لا سيما الشباب- بصورة حديثة ورقمية محببة وقريبة لرغباتهم، وتقدم بطريقة مشوقة ومقنعة".
إعادة سرد الذاكرة
والذاكرة -كما يخبرنا عودة- هي كل شيء؛ الزمان والمكان وما يقع بينهما من أحداث، إضافة إلى اللغة والمنهج والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغير ذلك، وهذا يكون دور الرواية الفلسطينية القائم على النقل الشفوي المستند إلى الفلسطيني القديم وطريقة البناء.
وأهمية الرواية الفلسطينية تكمن في حقيقتها، ويقول عودة إنها "قائمة على البناء التاريخي لهذه الأرض الذي يمتد لأكثر من 18 ألف سنة قبل الميلاد"، ويضيف "لا نتحدث عن أوهام ولا أساطير، وإنما حقائق تاريخية".
ويستدرك عودة غائرا في التاريخ الفلسطيني قائلا إن النطوفيين (ثقافة قديمة نسبة إلى وادي النطوف شمال غربي القدس في فلسطين) والكنعانيين (سكان فلسطين القدامى) في حيفا والقدس هم الذين أسسوا مفهوم الزراعة بمنطقة أريحا، "فهذا التاريخ المتصل منذ ذلك الحين حتى الآن لا يضيره وجود غزاة ومحتلين طارئين على هذه الأرض لفترات قصيرة".
في مركزه الجديد -الذي تمتد فكرته لـ5 سنوات وافتتح العام الماضي- يحاول عودة وآخرون إعادة سرد الذاكرة الفلسطينية، وتقريبها من الأجيال الشابة بما يتناسب مع ثقافتهم، ومن حارة القريون في البلدة القديمة بنابلس يتخذ صبَّانة (مصنع صابون نابلسي) قديمة يمتد عمرها لأكثر من 250 عاما مقرا له، ويزوده بأحدث التقنيات الإلكترونية التي تعرّف بالتاريخ الفلسطيني بطريقة حديثة.
وللمركز موقع إلكتروني وتطبيق عبر الهواتف الخلوية لا يقل شأنا في تقديم المعلومة بشكل واف ودقيق.
دور واحد في وجه الآخر العدو
والذاكرة جزء حقيقي من الرواية الفلسطينية، ولا يمكن الفصل بينهما، فكلتاهما تؤكدان حق الفلسطيني في أرضه، وتدحضان الرواية الصهيونية، خاصة في ظل التطبيع الذي يقوم به الاحتلال ويروج له عبر الأجيال الصغيرة بأن لليهود إرثا سياسيا وتاريخيا بأرض فلسطين.
ويقول الكاتب والروائي الفلسطيني عبَّاد يحيى إن أي نص يكتبه الفلسطيني عن عالمه وحياته بكل تفاصيلها من عاديّها إلى غريبها ومن خاصّها إلى عامّها، هو في حقيقته حفظ لما يرد فيه من عناصر تصير مع الزمن ما نسميه الذاكرة الفلسطينية.
ومجمل وعي الفلسطينيين -كما يضيف يحيى في حديث للجزيرة نت- محمول ومنقول في المتداول الشفهي من حكاياتهم وأخبارهم، وفي النص المكتوب الذي تعرّض طويلا للمحو والمصادرة.
وهذا ما يجعل أي نص مكتوب -وتحديدا الرواية- حفظا لعناصر الذاكرة وإبرازا لها، بدءا من المادية كأسماء الأماكن والأشياء، وصولا للأحداث العامة والمشاعر الجمعيّة.
ومن اللافت -حسب يحيى- أن كتابة الرواية الفلسطينية مشغولة بسؤال الذاكرة وسؤال التاريخ، وتحاول أن تقدّم إسهاما فيهما، بوعي من الكاتب أو من دونه.
وللتسهيل على زواره المحليين والأجانب، تعتمد فكرة المركز الثقافي للذاكرة والرواية الفلسطينية على العامل التقني، إذ يجد الزائر شاشات إلكترونية صغيرة وكبيرة وموصولة بالإنترنت وتزخر بالمعلومات التاريخية والثقافية والاجتماعية، وكل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية من الثورة والمجازر والنكبة وغير ذلك.
وهذه الشاشات تقدم محتواها قراءة أو نصا صوتيا، وترفده بكل الوسائط من صورة ومقاطع فيديو أو حتى أفلام توثيقية داعمة تشرح الفكرة أكثر، وقريبا ستوصل بتقنية الواقع المعزز ثلاثية الأبعاد لتقرب الرائي أكثر من المشهد.
وأعد المركز أيضا أفلاما توثيقية حول النكبة وشهودها، ويستعد لإطلاق فيلم توثيقي يمتد زمنه لـ100 دقيقة، ويعالج فلسطين ومفاصل تاريخها الممتد من العصور القديمة والحديثة، بحيث يخصص لكل مرحلة من دقيقة إلى 3 دقائق للحديث عنها.
وثيقة إثبات.. حين تبدع الرواية
وفي سرد أبعادها من الزمان والمكان والحدث والشخوص تكمن أهمية الرواية، وتزداد أهميتها عندما تحترف صياغة وتشكيل ما تعتمره ذاكرة الإنسان وطبيعة علاقته بالمكان، بل وأكثر من ذلك حينما تتحول لوثيقة تسجيلية تتميز بالسلاسة والبساطة وتخرج عن الأطر الجامدة في توثيق الذاكرة التاريخية.
ومن هنا يرى الروائي الفلسطيني نهاد خنفر أن الرواية الفلسطينية تحتل حيزا مهما بالحفاظ على الذاكرة الجمعية الموحدة، وذلك لقدرتها على استعراض الأحداث المفصلية في حياة الشعب الفلسطيني ومسيرته في المعاناة والنضال والإنجاز.
كما أن كثيرا من الروايات الفلسطينية أعادت إظهار الكثير من معالم الذاكرة الاجتماعية والسياسية والثقافية والتراثية عبر توليفة سردية سلسة جذبت اهتمام المعنيين من الثقافات الأخرى.
ولا شك -كما يقول خنفر للجزيرة نت- أن أنماط السرد الروائي تعطي الرواية مساحة أكثر اتساعا ورحابة في تطوير الذاكرة، وتعزو ذلك لتحرر الرواية من كثير من القيود الجامدة المتلازمة مع أجناس الكتابة الأخرى، خاصة التوثيقية منها، مما يحد من جمهور المهتمين ويحصره في نطاقات ضيقة تركز على المتخصصين وحيز ضيق من المهتمين.
ويضيف أنه يكفي معرفة أن عدد السكان اليهود بكل فلسطين عام 1850 بلغ 3 آلاف نسمة، ولم يملكوا أكثر من 0.5% من الأرض، ولم يتجاوزوا 180 يهوديا بالقدس عند الغزو الفرنسي لفلسطين عام 1799، وأن يافا كانت الأولى عالميا أواخر القرن 19 وبداية القرن 20 في تصدير البرتقال، لنقول إن الذاكرة الفلسطينية زاخرة وحيَّة وأن على الرواية أن تظل تشق طريقها لإثباتها وكشف المزيد عنها.
المصدر : الجزيرة