أحياء القدس تشكو تنازلات سلطة فتح الفاضحة

القدس - لمراسلنا

في أزقتها العتيقة لم تعد الأرضية صلبة كما كانت، بل أقرب إلى الانهيار، تحمل أتربة علقت بأحذية حاخامات يتنافسون على حفظ شكل الحجارة ومواقعها بل وإطلاق الأسماء عليها واختيار المفضل لدى كلٍ منهم.. في الطريق ذاته تستطيعُ سماع همس الأبواب الحديدية الضخمة لو أردت ذلك، تتناجى فيما بينها وتحدّث المارة دون صوت يُسمع.. كم حدّثت أصحابها هناك وكم نادت.. ولكنها اكتفت في النهاية بصريرِ احتكاكها مع الجدار القديم الذي طالما كان واقفاً يسمعها ولم ينطق، حتى عندما أحس بفتات الأبواب الصدئة يسقط على نتوءاته.. لم ينطق.

ثم تجذب عينيك تلك النوافذ المتقنة فوق الأبواب، تسرح في دقة هندستها وإن ذابت أطرافها الحجرية بطريقة لا تزعجك بل تزيدك دهشة، تتأملها وتتساءل من أي زمن جاءت، بل من أي الزلازل نجت ومن أي إرهاصات الأرض أُنقذت، فكل ما فيها لا يزيد الممر ذاك إلا أصالة، حتى الزجاج الذي قاوم الكسر أكثر من مرة ولم ينجُ هذا الصباح من قطعة قماش مبللة أخطأت بعض حبات الغبار على سطحه، كان يزيد المشهد جمالاً.

ولكنّ تلك اللوحة الساحرة في قدس مكلومة شوهت بأيدٍ أخرى ليست يهودية فقط، وبات العلم الممزوج بالأزرق والأبيض يتربع بمساعدةٍ ممن ارتضوا لنفسهم أن تبيع الأرض والعرض وعاصمة الصمود الأزلي، فماذا تحكي تلك الأحياء وما أهميتها لدى المقدسيين؟

لمحة تاريخية

قام الاحتلال بتقسيم البلدة القديمة التي تبلغ مساحتها 871 دونماً إلى أربعة أقسام أسماها حي الأرمن وما يسمى بالحي اليهودي وحي النصارى والحي الإسلامي، حيث يقع المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة على 142 دونماً من هذه المساحة، أما حارة الأرمن أو حي الأرمن في البلدة القديمة بالقدس فتشكل سدس مساحة تلك البلدة، وتتميز بموقعها التاريخي واحتوائها على آثار تعود لمئات السنين، مثل دير مار يعقوب وهي كنيسة الحي ووفقاً للتسلسل الزمني تعتبر أول كنيسة في التاريخ وتضم دير المخلص المسمى (منزل قيافا)، ودير رئيس الملائكة (منزل الكاهن الأكبر حنّان)، ومعبد القديس تيودورس، وقاعة البطريركية، ومقر ومكاتب البطريركية، والمعهد اللاهوتي الذي تأسس في عام 1843، ومدرسة القديس تاركمانشاتش، ومكتبة كولبنكيان، ومتحف مارديكيان، وغيرها، كما تملك البطريركية اضخم ثاني مكتبة أرمنية للمخطوطات في العالم، واقدم مطبعة في القدس، التي تأسست عام 1833م.

وبالنسبة لحي الأرمن فتبلغ مساحته 123 دونما، ويسكنه الفلسطينيون الأرمن الذين أتوا إلى القدس منذ مئات السنين، وأقاموا ديرا هناك وسكنوا حوله، ويمتد من بوابة يافا إلى منطقة القشلة وحديقة للأرمن، وهو يشكل منطقة اسمها القدس العليا التي تشرف على مقطع قلعة القدس، ومحرس القدس من الجهتين الغربية والجنوبية، وتشرف على "واد هنوم" (وادي جهنم) بالإضافة إلى جورة العناب وبركة السلطان.

أما حارة الشرف التي يسميها الاحتلال بالحي اليهودي فتحاذي مباشرة حائط البراق، وهي عمليا حيّ مقام على أنقاض حوش البراق الذي هدم ليقام مكانه ما يسمى بحائط المبكى، وإلى جنوبه يقع حي المغاربة الذي هدم ليكون إحدى واجهات ما يسمى بالهيكل اليهودي، وإلى جانبه حارتا الريشة والشرف اللتان تتداخلان مع الحي الأرمني.

وتقول مؤسسة القدس للبحث والتوثيق إنه ليس هناك في التاريخ شيء اسمه الحي اليهودي، وإنما هناك حي أقيم على أنقاض أحياء فلسطينية وأطلق عليه هذا الاسم، موضحة أنه خلال القرن التاسع عشر كانت هناك ست عائلات يهودية تقيم في أرض طولها 240 مترا وعرضها 70 مترا، واعتبر الاحتلال أن هذه هي نواة "الحي اليهودي.

خطورة التنازل

وما كشفت عنه وثائق قناة الجزيرة القطرية من تنازلات فظيعة قامت بها سلطة فتح يعتبره المقدسيون كارثياً على مستقبل البلدة القديمة، حيث أن تلك الأحياء التي برعت السلطة في التنازل عنها وتقديمها هدية للاحتلال، تساهم في شكل كبير في استيطان المغتصبين داخل المدينة وازدياد وتيرة التهويد.

ويقول الخبير المقدسي جمال عمرو لـ"الرسالة" إن هناك سراً جغرافياً هندسياً للتنازل عن تلك الأحياء، حيث أنها تصل ما يسمى بالحي اليهودي غرب المسجد الأقصى المبارك بالتواجد اليهودي الجغرافي الكثيف في القدس ، فيندفع المغتصبون عبر جزء من الحي الأرمني المتواصل مع باب الخليل ودخولاً إلى جسر يتم بناؤه حالياً ويفضي مباشرة إلى المسجد المبارك.

ولفت عمرو إلى أن هذا التواصل لا يمكن أن يتحقق مطلقاً إلا بسيطرة "إسرائيل" على تلك الأحياء التي وردت في الوثائق، فتم التركيز عليه وتخويله ليحمل صفة تاريخية ودينية وتوراتية وتلفيق ذلك وتقديمه للعالم على أنه حقائق على الأرض.

وأكد أن دولة الكيان تقوم على رواية توراتية يجب أن تكون لها فرضيات ودعائم وإشارات لتثبيت روايتها المزيفة وإلا لا يمكن التصديق بأنها دولة، فقام الاحتلال بإعطاء مبرر لوجودها، مبيناً أنه تم ربطها بالمفهوم التوراتي والحديث عن أن المكان كان به أنبياء بني "إسرائيل" وتارة أخرى ملوك بني "إسرائيل" وفي حديث آخر حكماء بني "إسرائيل".

وأوضح عمرو أن مفارقات فظيعة تذكر في الرواية اليهودية رغم أن علماء يهود أكدوا بأنه لا توجد أي آثار يهودية في القدس المحتلة ولا آثار للهيكل المزعوم، وأن تلك المعلومات نشرت في الجامعة العبرية في المدينة ولكن الاحتلال يخرج بكل غطرسة وعناد ليدّعي بأن الآثار موجودة فقط من أجل السيطرة على مزيد من الأراضي والمقدسات الإسلامية.

من جانبها أكدت مؤسسة القدس للبحث والتوثيق، أن تنازل عن حيي الأرمن والشرف، يعني من الناحية الجغرافية التخلي عن الجهة الغربية والجنوبية للمسجد الأقصى، وخلق تواصل مع ما يسمى بالحوض المقدس، حيث تسعى "إسرائيل" إلى إقامة 12 حديقة توراتية لربط الزاوية الشمالية لجبل سكوبس بجبال الزيتون والطور ومنطقة رأس العمود وبلدة سلوان وبوابتي الشرف والأرمن وبوابة يافا، وبالتالي إدخال البلدة القديمة من القدس الشرقية إلى ما يعرف حاليا بالقدس الغربية.

الوثائق.. حقائق

ومهما بلغ الحديث عن التشكيك في مصداقية الوثائق التي كشفت النقاب عنها الجزيرة، يشدد المقدسيون على أنها حقيقية بالعودة إلى الوقائع على الأرض التي تؤكد وجود مخططات إسرائيلية في الأحياء التي تم الحديث عنها في الوثائق بتسارع غير مسبوق.

ويقول النائب المقدسي المهدد بالإبعاد أحمد عطون لـ"الرسالة" إن الوقائع على أرض القدس المحتلة تثبت بشكل قاطع صحة الوثائق التي أنتجتها المفاوضات التنازلية، مبيناً أن عمليات التهويد المتسارعة في أحياء الشيخ جراح والبلدة القديمة ترتبط بعمليات التنازل التي كشفت عنها الوثائق.

وأضاف:" سواء كانت الوثائق صحيحة أم لا فالواقع يكشف دقتها ودقة الأماكن التي تم التنازل عنها والحديث حولها وكأنها أماكن يهودية بالأساس، إضافة إلى عمليات تهويد دون أن تحرك السلطة ساكناً".

ورأى عطون أن المفاوضات حول القدس كانت عبارة عن مؤامرة بين سلطة فتح والاحتلال على مستقبل المدينة المهدد أصلاً، في الوقت الذي يمكث أهلها صامدون على ركام منازلهم وتحت خيامهم على جوانب الشوارع.

وفي السياق ذاته يقول عمرو إن الوثائق مست الوجدان والكرامة الفلسطينية لأنها تعدت الحبر على الورق فوصلت إلى حقيقة أشد إيلاما غطتها التقارير الإعلامية مرحلة تلو الاخرى، مبيناً أن حقائق فيزيائية مادية توجد على الأرض وتترجم كل ما ورد بالوثائق.

"لا يا عباس"

أما المواطن المقدسي الذي بات يعيش تحت احتلالين أحدهما متعاون يحاول سلبه أرضه أيضاً، فشكلت الوثائق لبعضهم صدمة مفاجئة حول ما تعرضت له مدينتهم من عمليات تنازل سرية، في حين رأى الكثيرون أنها متوقعة من سلطة موالية للاحتلال.

ويقول المواطن المقدسي أحمد خليل لـ"الرسالة نت":" لا يا عباس لا تملك ولن تملك حق التنازل عن مدينتي، هذه أرضنا المقدسة ونحن أولى فيها ونحن من تحمّلنا الويلات عليها دفاعاً عنها، لا يا عباس لن تستطيع التنازل عنها".

أما شيرين السيد من بيت حنينا فقالت لـ"الرسالة": "هذه الوثائق لا تحمل جديدا ولكن أهميتها تكمن في أنها سلطت الضوء أكثر على جانب فلسطيني يتنازل عن أرضه، أرى أن الوثائق هامة للغاية ولكن الذي يجري على الأرض أهم".

ويزيد على ذلك الطالب الجامعي أنس جبريل لـ"الرسالة":" يجب أن تقام محاكمات لرجال السلطة الذين عرضوا التنازل عن المدينة أو أي شبر منها، لأننا نشهد كل يوم عمليات تهويد إسرائيلية يقابلها صمت قاتل من السلطة لنكتشف أنها شريكة في ذلك!".

ومع استمرار توالي فضائح سلطة فتح بحق الشعب والقضية الفلسطينية يتساءل المقدسيون،: كيف يمكن أن يُطعن ظهرهم من يد فلسطينية؟!، مؤكدين أنهم هم من قدموا التضحيات لحماية مدينتهم ودعم صمودها

 

 

البث المباشر