فتاة غضة، لم تعي من أمور الدنيا ومصاعبها شيئاً بعد حين زارت بيتهم للمرة الأخيرة ابنة أخت والدها" أم نزار". لم تكن هذه الزائرة هي الأولى كما لم تكن الأخيرة، فالأقارب من القرية ممن يزورون الأردن، يحطَّون رحالهم في بيت أبو فخري التميمي.. كانت هذه هي العادة الدارجة. وكل ضيف يتحدث عن القرية والظروف المحيطة ووضع البلاد.
قبل أن تمض عدة أشهر، جلس والدها يبكي بحرقة.. صدمها المشهد: أبي يبكي؟ ماذا جرى؟ لماذا؟
- استشهدت أم نزار في المحكمة!
- ماذا يعني ذلك؟ وما هي المحكمة؟ وكيف استشهدت؟
- كانت تحضر محاكمة ابنها نزار الذي حكمت عليه المحكمة بالسجن المؤبد مدى الحياة، حاولت الاقتراب من نزار ولمسه، فأبعدتها مجندة صهيونية بشراسة ضربتها على رأسها بسلاحها، فتزحلقت على درج حديدي ارتطم رأسها به ودخلت في غيبوبة ثم استشهدت.
كان هذا الحادث هو الذي قلب حياتها رأساً على عقب، شعرت وكأنها قفزت عن مراهقتها لتعيش هموم الكبار. أصبحت فلسطين محط اهتمامها، والعمل من أجلها غاية أمنياتها.. عرفت حكاية نزار ابن عمها، وتفاصيل مقاومته واعتقاله ومحاكمته... أصبح نزار في نظرها نموذجاً للبطل الذي افتدى فلسطين بحريته.
******************
لأبوين فلسطينيين يعيشان في الأردن تعود أصولهما لقرية "النبي صالح" في محافظة رام الله، ولدت أحلام التميمي عام 1980. نشأت في مدينة الزرقاء في الأردن وأنهت تعليمها المدرسي وعينها ترنو للعودة لفلسطين. عام 1998 وبعد حصولها على الثانوية العامة قررت وأسرتها العودة، ولكن وقفت عقبة عدم امتلاكهم للهوية الفلسطينية أمامهم، وحالت دون ذلك، ما دفعهم إلى استصدار تصاريح زيارة عبر أقاربهم في القرية. عادت أحلام وعاشت المشاعر الرائعة التي كانت تربطها بفلسطين، وبعد أيام كانت تتجه إلى سجن عسقلان لزيارة ابن عمها نزار لتقول له شكراً لك على التغيير الكبير الذي أحدثته في حياتي. لم يعرفها نزار، فلم يسبق له رؤيتها، ولكن هذه الزيارة شكلت فارقاً كبيراً لكليهما، عرفت فيه نزار، الأسير المثقف، رفيع الخلق، المقاوم.. وهو ما ترك في نفسها انطباعاً كان له أثراً في حياتها بعد ذلك.
رفضت أحلام الرجوع إلى الأردن، وبقيت إلى جانب أخيها محمد وأختها المتزوجة في القرية" أم حلمي"، وبدأت الدراسة في كلية الصحافة والإعلام في جامعة بير زيت، ونشطت أثناء دراستها وشرعت تعمل مراسلة صحفية حتى قبل تخرجها.
بعد التخرج حصلت على عضوية نقابة الصحفيين، وعملت في مجلة الميلاد الصادرة في رام الله والمختصة بالتحقيق في قضايا فساد المؤسسات الحكومية التابعة للسلطة، وقدمت برنامج حصاد الأسبوع على تلفزيون الاستقلال المحلي.
في فلسطين، وأثناء تغطياتها الصحفية وتوثيقها بالصورة والكلمة المكتوبة لمعاناة الفلسطينيين اليومية شاهدت الوجه المرّ للحياة تحت الاحتلال، والذي لم تكن تعرف كافة تفاصيله من قبل، رأت بأم عينها الشهداء يسقطون، والجرحى يصابون وينزفون.. شاركت في فعاليات الانتفاضة؛ أشعلت إطارات الكاوشوك، وساعدت المنتفضين في بلوغ أهدافهم على نقاط التماس.
دفعتها رغبتها في الجهاد بعد ذلك للانضمام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، لتكون المرأة الأولى فيها، وانطلقت تشارك في العمليات العسكرية ضد الأهداف الصهيونية ضمن مجموعة القدس الفدائية.
أخذت تتجوّل بسيارتها في شوارع القدس التي يقطنها يهود بحجة إجراء مقابلات صحفية؛ وذلك لاختيار وتحديد الأماكن التي تلائم أهداف العمليات الاستشهادية التي كان المهندس عبد الله البرغوثي يخطّط لتنفيذها انتقاماً لعمليات الاغتيال التي تقوم بها دولة الاحتلال ضد المقاومين وقادتهم.
بعد اغتيال الاحتلال للقائدين الفلسطينيين جمال منصور وجمال سليم في نابلس في 31/7/2001، وتحديداً في اليوم التالي كان الرد القسامي جاهزاً ينتظر التنفيذ. عبوة ناسفة أنيقة، مفخخة داخل زجاجة بيرة وضعتها أحلام في زاوية لا تثير الشكوك في سوبرماركت الملك جورج في القدس، اشترت بعدها قطعة حلوى.. وغادرت المكان.. انفجرت العبوة بعد ساعة بالضبط، كما خُطط لها!
وفي 9/8/2001، كانت هناك دماء فلسطينية كثيرة لا بد من الثأر لها.. وكان الاستشهادي هذه المرة عز الدين المصري، حملته أحلام التميمي بسيارتها يحمل على كتفه آلة الجيتار التي أحسن المهندس عبد الله البرغوثي تفخيخها إلى شارع يافا في القدس، حدّدت له الموقع، وفي أقرب نقطة بمقدورها أن تصلها دون أن تثير شكوكاً حولها، تركته يمضي في سبيل الله.. إلى مطعم سبارو الذي كان يزدحم بالزبائن في ذلك الوقت.. وقفلت عائدة إلى رام الله تشاهد نشرة الأخبار.
اصطف الفدائي عز الدين المصري بين طابور المستوطنين الذي ينتظرون دورهم، وكبَّر في سره كعادة الاستشهاديين، ثم فجَّر جيتاره، وسارع لمغادرة الدنيا والارتقاء شهيداً إلى عليين.
أسفرت العملية الاستشهادية عن مقتل 15 شخصاً وإصابة أكثر من 120 آخرين.
بعد شهر وخمسة أيام من هذه العملية تحديداً في 14/9/2001، وبعد منتصف الليل، حاصر جيش الاحتلال البيت الذي تقيم فيه مع أخيها في قرية النبي صالح، اقتحموا البيت بشراسة، واحتجزوها في إحدى الغرف.. حقَّقوا معها لبعض الوقت ثم اقتادوها مقيدة اليدين معصوبة العينين في جيباتهم العسكرية، رغم أن بيت عزاء والدتها التي توفيت قبل أيام ما زال مفتوحاً.
في مركز تحقيق المسكوبية تعرضت لتعذيبٍ قاسٍ استمر لخمسة وأربعين يوماً، وعاشت ظروفاً أقل ما يقال عنها إنها صعبة في معتقلات الاحتلال وزنازين العزل الانفرادي.
وبعد محاكمات امتدت لعامين، حكمت عليها محكمة صهيونية عسكرية عليها بالسجن المؤبد 16 مرة و250 عاماً، مع توصية بعدم الإفراج عنها في أي عملية تبادل للأسرى يمكن أن تتم.
قالوا لها في السجن:" ستموتين وتتعفنين هنا ولن تري النور".
فقالت ساخرة:" وراي رجال وراح تشوفوا!"
زارها في سجنها شقيقها محمد وشقيقتها أم حلمي قبل أن يمنع الاحتلال محمد من زيارتها بذريعة المنع الأمني. أما والدها، فتمكن من القدوم من الأردن لزيارتها في الأسر لمرة واحدة فقط.
في الأسر تمت خطبتها لابن عمها نزار التميمي، المعتقل منذ عام 1993 بتهمة قتل مستوطن، والمحكوم بالسجن مدى الحياة. التقت أحلام بنزار في الأسر مرة واحدة عام 2010 من خلف الزجاج وتحت المراقبة الدقيقة.
أثناء التفاوض على صفقة وفاء الأحرار أصر القائد أحمد الجعبري على أن تتضمن الصفقة اسم أحلام التميمي؛ لدرجة أنه استبعد أسماء اثنين من الأسري الرجال ذوي المحكومات العالية مقابل الإفراج عنها، وقال حينها: بلغني ما تعانيه أحلام من تعذيب جسدي ومعنوي داخل سجون الاحتلال بشكل لا يطيقه البشر.
أمضت عشر سنوات في السجن قبل أن يُفرج عنها في صفقة وفاء الأحرار في 18/10/2011 أُبعدت بعدها إلى الأردن.. تزوجت أحلام من نزار الذي أُفرج عنه أيضاً في الصفقة ذاتها، وعادت تعمل في الصحافة وتتابع دراستها، وتعيش حياتها كأي إنسان طبيعي آخر.
ولكن أحلام لم تعش بثبات ونبات، ولم تخلِّف صبيان وبنات، كما يحدث في الحكايات عادة.. فالقصة لم تنته هنا.. لأن الكيان الصهيوني كعادته لا يتصرف إلا بعقلية العصابات، بدأوا يحرضون الولايات المتحدة ضدها، ورفعت جمعيات صهيونية قضايا عدة ضدها في محاكم ولايات عدة من الولايات المتحدة الأمريكية.. حتى أُدرج اسمها في قوائم الإرهاب في 14/3/2017 وأصبحت مطلوبة لمكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي).. بتهمة المشاركة في تفجير مطعم" إسرائيلي" عام 2001 قتل فيه أميركيان! وطالبت وزارة العدل الأميركية الحكومة الأردنية بتسليم الأسيرة المحررة أحلام التميمي، لمحاكمتها في أمريكا.
ولأن القانون الأردني لا يدعم تسليم مطلوبين للولايات المتحدة، رفضت الأردن ترحيل أحلام، برغم الضغوط التي تمارسها أمريكا على حكومة الأردن.
وبدأت أحلام تتعرض للتهديد من مستويات أمريكية عليا، التي عرضت المال مقابل الإدلاء بمعلومات عنها، نعتوها بأنها إرهابية، وكأنها ليست هي المناضلة صاحبة القضية العادلة التي تدافع عن قضيتها وعن حقها في الحرية والوجود.
وبدون سابق إنذار، وقبل عامين ونصف من الآن، حضر رجل أمن أردني يحمل بلاغاً إلى بيتها ورد فيه: نزار التميمي، أنت شخص لم يعد مرغوباً بوجودك في الأردن، وسنقوم بترحيلك إلى قطر! هكذا بدون أي مقدمات!
وبعد أسبوع بالضبط رُحل نزار إلى قطر في طائرة برفقة رجال الأمن.. شرك نُصب لأحلام لعلها تلحق بزوجها فيتمكن الانتربول من اعتقالها وتسليمها لأمريكا! التي أعلنت عن جائزة بقيمة 5 ملايين دولار لمن يؤدي إلى تمكنهم من اعتقالها.
تعيش أحلام الآن في الأردن بعيدةً عن زوجها، تحت تهديد وقلق مستمر، يبذلون ما بوسعهم للتحريض ضدها لعلهم يتمكنون من الانتقام منها.. ولكن أحلام ثابته وصامدة تؤمن بقدر الله وقضية فلسطين، فإن بقيت فلله وفي سبيل الله، وإن اختار الله لها شيئاً آخر قبلته بصدر رحب.. فهي تدرك تماماً أن هذه الحياة قصيرة وهي مجرد محطة عبور للآخرة..
ونقول لأحلام في نهاية هذا المقال:" نحن معك.. نتضامن ونؤمن بحقك في الدفاع عن قضيتك العادلة وحقك في العيش برفقة زوجك بحرية وأمن وسلام".