منذ أسبوع بدأ المشهد يتغير تدريجيا في سوق اللحامين في القدس القديمة بعدما كان يقال بحقه إنه يحتضر منذ سنوات. وجاء التغيير بعد ترميم 16 محلا تجاريا في السوق وإعادة افتتاحها في هذه المنطقة الحساسة من البلدة القديمة.
ونفذت أعمال الترميم مؤسسة (وافا للتنمية وبناء القدرات) في فلسطين بدعم من (الهلال الأحمر) الكويتي وغرفة تجارة وصناعة الكويت.
وداخل السوق يلمس المتسوق الاختلاف الكبير بين المحلات المرممة وتلك التي تنتظر المرحلة الثانية من المشروع لترميمها، ويمكنه أيضا رؤية مزيد من الأبواب التي فُتحت وبدأ أصحابها تجهيز البضائع ووضع اللمسات الأخيرة لإعادة افتتاحها.
وقال ناصر قرّش أحد أقدم الجزّارين بالسوق المقدسي إنه يعمل فيه منذ عام 1972 وارثا هذه المهنة عن والده الذي كان يعمل بها خلال فترة الانتداب البريطاني.
واشترت عائلة قرّش 3 محلات في سوق اللحامين ثلاثينيات القرن الماضي، وخصصت أحدها لبيع "السَقَط" (أحشاء المواشي) وخصصت الآخرين لبيع اللحوم بأنواعها.
وانتعش السوق على مدار عقود لكن نجمه أخذ بالأفول مع الأزمة الاقتصادية التي رافقت اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وخنق المدينة المقدسة وتفريغها، واستهداف التجار بالضرائب والمخالفات للاستيلاء على محلاتهم.
واضطر بعض أصحاب المحال لإغلاق أبوابها في ظل تراجع كبير للحركة الشرائية، والحاجة الماسة لترميم المحلات.
ويشار إلى أن السوق بُني خلال الفترة الصليبية (أي قبل أكثر من 900 عام) ورُمّم لاحقا بالعهدين الأيوبي والمملوكي، وكان يسمى سوق (الطعام الرديء) لأن أصحابه يبيعون جميع ما ينتج عن ذبح المواشي من أعضاء داخلية بالإضافة إلى اللحوم.
حلم تحقق
ختم ناصر قرّش حديثه بالقول إنه لم يحلم يوما بإعادة افتتاح محل "السَقَط" لأن التعقيدات التي يضعها الاحتلال لترميم المحال كثيرة، إلى جانب التكلفة المرتفعة، مشيرا إلى أن وضع محله كان رديئا لدرجة أن الفئران كانت تخرج من بين أتربة أرضيته.
المهندس المسؤول عن ترميم الـ 16 محلا عبد الرحمن أبو طير قال إن اختيار محلات سوق اللحامين لترميمها لم يكن عبثيا، وجاء بعد معاينة ميدانية اتضح من خلالها أن المحلات متهالكة واضطر بعض أصحابها لهجرانها بسبب ذلك.
وأضاف "كان هذا السوق أحد أكثر أسواق العتيقة اكتظاظا وكان لابد من إعادة إحيائه، والهلال الأحمر الكويتي لبى النداء ووعد خلال افتتاحه المحال قبل أيام بترميم أخرى المرحلة القادمة".
مستشار رئيس مجلس إدارة الهلال الأحمر الكويتي الدكتور مساعد العنزي استهل حديثه بالقول إن هذه المبادرة أتت لتبحث عن مشاريع تدعم الفلسطينيين بشكل عام والمقدسيين خاصة، وإن غرفة تجارة وصناعة الكويت قدمت دعما سخيا لهذه المبادرة.
ويضيف الدكتور العنزي "بلغت تكلفة ترميم الـ 16 محلا في سوق اللحامين نحو 300 ألف دولار ونطمح لترميم أكثر من 60 محلا آخرا بالسوق ذاته".
وبالعودة لبداية المبادرة واختيار القطاع التجاري لتنفيذ أعمال الترميم، قال العنزي إنهم اطلعوا على واقع السوق وتلقوا معلومات تفيد بإمكانية استيلاء سلطات الاحتلال على محلاته، فكان لابد من الاستجابة السريعة للنداء بهدف دعم صمود التجار المقدسيين في وجه الإجراءات (الإسرائيلية) وإعادة فتح مصدر رزقهم.
طريق معبد بالتضييقات
لم تكن زيارة وفد الهلال الأحمر الكويتي لمدينة القدس والمسجد الأقصى مفروشة بالورود، وتطرق العنزي إلى انتشار شرطة الاحتلال في البلدة القديمة وتعطيل الوفد خلال محاولته الوصول إلى المسجد الأقصى.
وعن طبيعة المتبرعين لمشاريع الهلال الأحمر الكويتي والغرفة التجارية، قال إن القطاع الخاص والجمعيات الخيرية الكويتية والأفراد قدموا تبرعات سخية، وبمجرد إعلان الهلال عن المضي في ترميم محلات تجارية أخرى وردت الكثير من الاتصالات من متبرعين كويتيين أبدوا رغبتهم في المساهمة بمراحل الترميم القادمة.
وختم الدكتور العنزي حديثه بالقول "بالإضافة للتبرعات العينية هناك حاجة ماسة للتبرع من أجل ترميم المنازل والمحال التجارية لأن المقدسيين يعانون من ضغوطات كبيرة بهدف تهجيرهم وتهويد أحيائهم بعد الاستيلاء على العقارات بطرق غير شرعية".
محيسن عطاونة مدير عام مؤسسة "وافا للتنمية وبناء القدرات" تحدث عن أبرز المعيقات التي رافقت عملية ترميم محلات سوق اللحامين، وأبرزها الإجراءات المعقدة التي تفرضها سلطة الآثار (الإسرائيلية) التي أُجّلت بسببها عملية الترميم مرارا للحصول على الموافقات وإرسال المراقبين إلى الموقع.
ولم يكن انتقاء المحال التجارية التي وقع عليها الاختيار للترميم أقل صعوبة بسبب الاحتياج العالي بهذا السوق، وتم بالمرحلة الأولى اختيار المحلات المتلاصقة لينتج عن ذلك ترميم مقطع كامل من السوق على أن ترمم البقية خلال المراحل المقبلة بتمويل من الهلال الأحمر الكويتي وغرفة تجارة وصناعة الكويت.
ويحتوي سوق اللحامين على 100 محل تجاري اختصت جميعها قديما ببيع اللحوم، لكن ملامح السوق بدأت تتغير تدريجيا ولم تعد المحلات فيه تختص باللحوم فقط، بل تحول بعضها لبيع الأدوات المنزلية والصوف، وأخرى لبيع الخضراوات والفواكه، إضافة لمطاعم شعبية صغيرة.
وبدأت المحاولات (الإسرائيلية) للسيطرة على السوق أواخر ثمانينيات القرن الماضي عندما أقدم جيش الاحتلال ذات يوم على إطلاق وابل من القنابل الغازية بداخله مما أدى لاستشهاد شاب مقدسي وإصابة آخرين، ثم بدأت سلطات الاحتلال تكثيف الهجوم على الجزء الغربي من السوق الذي يمتلكه الدير اللوثري، وسيطرت على سطح السوق وحوّلت جزءا من المباني التي تقع فوقه إلى كنيس.
المصدر : الجزيرة