حرب الساعات العشر بصواريخها وقذائفها على جبهتي لبنان وقطاع غزة الأسبوعَ الماضي، فاجأت العدو الصهيوني وأربكته. لعل أبأس الصهاينة وأكثرهم ارتباكاً رئيس حكومة الكيان المأزوم بنيامين نتنياهو. فهو عالقٌ بين حربين: الأولى مع الفلسطينيين على مدى فلسطين التاريخية كلها، والثانية مع اليهود الصهاينة المنقسمين على أنفسهم والمتنازعين في شارعين متصادمين متناحرين، يتدحرجان إلى ما يحاكي حرباً اهليةً.
نتنياهو متفاجئ بقدرة الفلسطينيين على الصمود والصبر والمثابرة، كما على ابتداع أشكالٍ متعددة للمقاومة، أحدثها وأفعلها نزوع شبانهم وشاباتهم إلى التحوّل بقرار ذاتي إلى مقاومين مصممين على تنفيذ عمليات فدائية خارقة في الزمان والمكان. هكذا وجد اليهود الصهاينة أنفسهم أمام جيش غير منظور، أفراده قادرون على إلحاق أشد الأذى والتدمير بهم، بشراً وحجراً وشجراً، بينما ليس في مقدورهم سلطةً وجيشاً على تخصيص كل فلسطيني وفلسطينية بشرطي أو جندي لمراقبته وردعه عن القيام بفعلٍ فدائي مدوٍّ.
نتنياهو عاجز ليس أمام الفدائيين والفدائيات فحسب، بل أمام شركائه في السلطة. ذلك أن السياسي أو الضابط الأشد تطرفاً وتعصباً وعنصرية ووحشية بينهم، يبدو مصمماً على ممارسة أشد صنوف القتل والعنف والتمييز والتهجير ضد الفلسطينيين، على نحوٍ يُحرج حتى أكثر شركاء «إسرائيل» وحلفائها دعماً لها وتبريراً وتسويغاً لتصرفاتها العنصرية والتمييزية والإقصائية. فالمسؤولون الأمريكيون، مثلاً، ناشدوا نتنياهو أن يخفّف من تطرف وعنصرية ووحشية كلٍّ من وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية (والوزير المعين ايضاً وزيراً في وزارة الدفاع ) بتسلئيل سموتريتش، بطلي عملية اقتحام المسجد الأقصى مع أنصارهما يوم الجمعة الماضي، لكن دونما جدوى.. لماذا؟ لأن هذين الوزيرين هددا نتنياهو بالاستقالة إذا أصرّ على طلبه بوجوب الاعتدال وعدم التصرف الوحشي مع الفلسطينيين، لكونهما يعلمان أن نتنياهو لن يصرّ على مطلب مسايرة الأمريكيين، لأن استقالتهما تؤدي إلى خسارة الحكومة أكثريتها الهزيلة في الكنيست، فتضطر إلى الاستقالة، وباستقالتها يخسر نتنياهو حصانته، ويصبح ملزماً بالمثول أمام المحكمة بتهم الفساد وقبول الرشى والتزوير. إلى ذلك، ومع اتساع عمليات المقاومة الفلسطينية، اضطرت قيادة الجيش الإسرائيلي إلى نشر كتائب إضافية في مختلف مناطق الضفة الغربية المحتلة، الأمر الذي أضعف وجوده وفعاليته على الجبهات مع لبنان وسوريا وقطاع غزة. كل ذلك في وقتٍ يتزايد عدد ضباط وجنود وطيّاري وحدات الاحتياط المضربين عن الخدمة تضامناً مع جماهير المعارضين لما يُسمى «إصلاح القضاء»، أي إخضاعه لسلطة الحكومة، وبالتالي إنهاء استقلاليته. ليس أدل على شعور نتنياهو بالحرج والحيرة من اضطراره إلى:
تأخير رده الباهت اكثر من ست ساعات على عمليتي إطلاق القذائف والصواريخ من لبنان على مستوطناتٍ في شمال غرب الجليل وعلى مستوطناتٍ في غلاف قطاع غزة.
الحرص على عدم اتهام حزب الله بأيّ دورٍ في عملية إطلاق القذائف من لبنان، لأن الإقرار بذلك يستوجب قيامه بالردّ، وهو أمر يؤدي إلى اندلاع حربٍ ضارية ليس مع حزب الله فحسب، بل مع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة أيضاً، وربما مع سائر أطراف محور المقاومة، في وقتٍ تعاني فيه «إسرائيل» برمتها من انقسامات سياسية واضطرابات أمنية حادة تضعها على حافة حربٍ أهلية.
تفادي اتساع دائرة الدول والهيئات الدولية، خاصةً الحليفة والصديقة (وعلى وجه الخصوص الدول العربية المطبّعة مع الكيان الصهيوني) المندّدة باقتحام اليهود المتدينين والعنصريين حرم المسجد الأقصى يوم الجمعة الماضي، وتنكيلهم بالمصلين والمعتكفين ما ادّى إلى التسبب برفع القضية إلى مجلس الأمن الدولي.
كل هذا الارتباك والتردد والضعف الذي تبدّى في تعاطي نتنياهو وحكومته مع عمليات المقاومة المتصاعدة، وردود الفعل السياسية على تصرفات «إسرائيل» حيالها يؤشر إلى ارتسام وضع سياسي وأمني مغاير في منطقة غرب آسيا تتجلّى فيه الظاهرات الآتية:
أولاً: تصدّع بنية الكيان الصهيوني الداخلية، وتراجع قدراته العسكرية ونفوذه السياسي، ما أدّى ويؤدّي إلى مزيد من الاضطراب السياسي والأمني في الداخل وتراجع فعالية الكيان على جميع المستويات.
ثانياً: تعاظم قدرات أطراف محور المقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة ضد الكيان الصهيوني، الأمر الذي يتبدّى في امتداد عمليات المقاومة إلى داخل القدس الغربية وقلب تل أبيب، وتنامي مؤازرة فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 لأخوتهم في سائر أنحاء البلاد، سياسياً وإعلامياً واجتماعياً، كما يتجلّى في تزايد الدعم اللوجستي من أطراف محور المقاومة لفصائل المقاومة الفلسطينية الناشطة في الداخل، وكذلك الدعم العسكري الميداني من خلال إطلاق مسيّرات من لبنان وسوريا، وحتى من ايران للقيام بمهام استطلاعية واستخباراتية من فوق أجواء الأراضي المحتلة.
ثالثاً: الانعكاسات الإيجابية للمصالحة السعودية – الإيرانية على العلاقات السياسية والاقتصادية مع سوريا ولبنان وفصائل المقاومة الناشطة ضد إسرائيل، ذلك أن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، واستئناف العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بينها وبين دول الخليج باتت مؤكدة، الأمر الذي يفضي، عاجلاً أو آجلاً، إلى التعجيل في تطبيع العلاقات السياسية والأمنية بين سوريا وتركيا، وبالتالي إلى تعزيز دور سوريا في محور المقاومة، الأمر الذي حمل الولايات المتحدة على التحوّط عسكرياً لحماية «إسرائيل» بإرسالها الغواصة النووية فلوريدا إلى شرقي البحر المتوسط.
يتحصّل من مجمل هذه التحوّلات أن اطراف محور المقاومة، لاسيما فصائل المقاومة الفلسطينية، ستكون في وضع أفضل لتعظيم ضغوطها السياسية والميدانية على «إسرائيل» بغية ترسيخ وإنجاز هدفها الاستراتيجي المرحلي: لا لتهويد القدس ولا لتقسيم الأقصى مكانياً وزمانياً.