قائمة الموقع

في زيوريخ: معرض الفن الإسلامي يؤسس لثقافة عالمية

2023-04-12T12:26:00+03:00
الرسالة نت-وكالات

لكل تجربة فنية هويتها وبصمتها التي تُظهر خصائصها، إلا أن إنجاز العمل الفني وتقديمه في عصره، ليس سوى بداية مفتوحة ومصدر إلهام لأجيال لاحقة، تُعَرِّف الزمن بطريقتها من خلال الاستعادة والتطوير، وهو ما أشار إليه الفيلسوف السويسري جان بياجيه في مقدمة كتابه «نظرية المعرفة الجينية»: «ما تقترحه نظرية المعرفة الجينية هو اكتشاف جذور الأنواع المختلفة من المعرفة منذ أشكالها الأولية، والمتابعة إلى المستويات التالية».

ضمن هذه التراتبية يقدم متحف الفن في زيوريخ اعتباراُ من 23/ 03- 16/07/2023 من خلال معرضه الذي تتحاور فيه أوروبا مع الفن الإسلامي ليعيد توجيه البوصلة، ويركز على الفن الإسلامي تحت عنوان عريض: « Re-Orientation» بعد أن استعان بكادر تنظيمي ضخم، وبالعديد من جامعي الفن الإسلامي، خبراء شرقيين وغربيين مختصين بفن العمارة الإسلامي، وآخرين تقنيين مختصين بتركيبات الفيديو، إلا أن هذا المعرض لم يكن الأول من نوعه عالمياً فقد سبقه متحف ميتروبوليتان/ نيويورك للفنون الإسلامية 2011، بعد أن عرض أكثر من 15000 قطعةً وعمل فني، عكست الكثير من تجارب هذا الفن المهم منذ القرن السابع الميلادي حتى القرن الحادي والعشرين، ضمن تنوع كبير ونطاق واسع للتقاليد الثقافية الإسلامية، مع أعمال من أقصى الغرب مثل إسبانيا والمغرب، وأقصى الشرق مثل آسيا الوسطى وإندونيسيا. ضمت تلك المجموعة كُلّاً من المقدس والعلماني، وكشفت عن التأثير المتبادل للأشكال الفنية مثل الخط، وتبادل الزخارف النباتية (الأرابيسك) والزخرفة الهندسية. وقتها كتب الناقد الأمريكي راندي كينيدي في «نيويورك تايمز»: «على مدى السنوات الثلاث الماضية، وفي مجموعة من المعارض التي تم إخفاؤها عن الأنظار في الطابق الثاني من متحف متروبوليتان للفنون، بدا الأمر كما لو أن حكاية الكاتب والمؤرخ الأمريكي واشنطن إيرفينغ عن الماضي الغني للإسلام تتكشف في الاتجاه المعاكس، فقد كانت الكنوز أكثر من ألف قطعة من مقتنيات المتحف المرتبطة بالفن الإسلامي تملأ الغرف المشيدة حديثاً ببطء، وتحتل أماكنها في خزانات جديدة بَرَّاقة مع الرخام المصري تحت الأقدام ومصابيح المساجد وسط نوافير مزدحمة، وأقواس عالية لتأطير مناظر من ثلاثة عشر قرنا من تاريخ الفن».

تحت عنوان Re-Orientations يمثل معرض الفن الإسلامي لمتحف بحجم متحف الفن في زيوريخ، تحدياً كبيراً، نظراً لتناوله موضوعاً يركز على الثقافات الإسلامية، دون الحصول على مقتنيات المجموعة الخاصة بها، أما الخبرة الأكاديمية في هذا المجال فليست جزءاً من المعارض التي اعتاد عليها، والتي تتجه نحو الفن الغربي في شكل شبه مطلق. الأمر الأكثر صعوبةً هو أن العرض الذي يتضمن مفهوم مفردة «الإسلام» لن يكون منفصلاً في نظر الجمهور عن العرض السياسي بسبب أحداث الماضي القريب على الساحة العربية والمشرقية بشكل عام، لذلك سيتم الحُكم عليه حتماً من حيث مساهمته في المناقشة العامة « للسلام» مع إدراك أن هناك تمييزا ضئيلا للغاية بين الإسلام كدين أو كثقافة في شكلها السياسي، ومع ذلك فإن هذا التمايز ضروري لتمكين التفاهم بين الثقافات.


 

أسئلة كثيرة طرحت نفسها على المهتمين بمسيرة الفن، خصوصاً تلك المتعلقة بفنون الشرق المرتبطة بالتاريخ، حيث تستولي فكرة الإسلاموفيليا «التسمية السياسية الجديدة التي أطلقها أستاذ تاريخ الفن المعاصر ريمي لابروس اعتباراً من عام 2017 لتحل محل كلمة الإسلاموفوبيا» على معظم من يحاولون الاقتراب من تعريف الفن الإسلامي، خصوصاً بعد تهميش معظم مفاهيم الجمال في الفن الإسلامي وتسويرها بباب السياسة الفولاذي، وأصبح الشارع الغربي َيتَطيَّر منها، بل وتربّت أجيال وأجيال في الغرب وحتى في الشرق على القفز فوق هذا الإرث الفني العالمي، الذي طالما أَثَّر في الكثير من فنانين غربيين « تجرأوا» على السفر إلى الشرق، وحاولوا اكتشاف أسراره وقِيَمِهِ وأفكاره، علاوةً على ذلك، التهميش الإعلامي لمعظمَ التجارب الفنية المقبلة من الشرق، باستثناء بعض الأعمال الفردية لبعض الفنانين الشرقيين التي وصل البعض القليل منها إلى العالمية، بعد هيمنة إعلامية أوروبية وأمريكية شبه مطلقة على المشهد العالمي! الأسئلة المهمة هنا: هل يمكن للأوروبيين التعبير عن إعجابهم بمظاهر فنية مقبلة من قارّات أخرى؟ هل كان هناك خلل تاريخي في المظاهر الفنية بسبب التاريخ الاستعماري؟ هل هذه أسئلة دقيقة؟ أم أنها تُعتبر موضوعية للغاية، لكنْ لا توجد لها إجابات بسيطة؟ ربما يكون لدى معرض Re-Orientation بعض إجابات صريحة من خلال المعرض، نظراً للإعجاب والتقدير لما حضر فيه من أعمال الفن الشرقي الذي أثّر بشكل واضح في أعمال فنية غربية، أعمال شكَّلتْ إلهاماً لفن أوروبي وعالمي، ما زال متفوقاً بل لامعاً جديراً بالسيطرة على سوق فن عالمي ترتفع قيمة لوحاته تلقائياً!

المفاجأة كانت في كثافة الحضور وهو ما لم لم يَعتَدهُ المتحف المذكور في موعد الـPreview الذي يسبق مباشرةً التاريخ الرسمي للافتتاح، ففي مساء 23/03/2023 كانت صالة المتحف الكبيرة ممتلئةً قبل نصف ساعة من الموعد المحدد للدخول، ما يُعَدُّ مؤشراً قوياً على الاهتمام الخاص بفن مقبل من الشرق!

يقدم معرض Re-Orientations مقاربات مختلفة لهذه النقلة الثقافية، حيث كان للفن والعمارة في العالم الإسلامي تأثير مهم على الحداثة الغربية، فالعديد من الفنانين المهمين مثل فاسيلي كاندينسكي، غابرييلا مونتر، أو باول كلي، هنري ماتيس، وكذلك أساتذة الفن التطبيقي مثل الخَزًّاف الفرنسي تيودور ديك، أو المصمم والفنان الإسباني متعدد المواهب مريانو فورتوني مادرازو، مستوحاة من ثراء مفردات التصميم والزخرفة التي اتبعت قوانين الرياضيات، وتناسق الألوان غير المعتاد، أو من السجاد الفارسي والأواني المعدنية المنقوشة، أو الخزف من غرب آسيا وشمال افريقيا وإسبانيا المغاربية، ومن حكايات الليالي العربية التي أصبحت شائعة في أوروبا، منذ القرن الثامن عشر وامتدت إلى منتصف القرن التاسع عشر أي منذ عام 1851 حتى اليوم، والتي تركت بصماتها بشكل واضح على أعمال العديد من الفنانين مثل المخرجة الألمانية ورائدة الرسوم المتحركة لوتي راينيغار، التي استولى تركيب فيديو من تصميمها على قاعة خاصة لعرض الليالي العربية، والتي شهدت حضوراً كثيفاً منذ افتتاح المعرض.


 

قِلّةٌ من الفنانين الأوروبيين سافروا إلى البلدان الإسلامية «بناء على رغبتهم» وتعاملوا مع القطع الأثرية المتنوعة، المنفصلة عن السياق الأوروبي، والتي تم التركيز عليها من خلال أعمال الفنانين المشار إليهم أعلاه. سيتوقف الزائر أمام ثلاث لوحات لكاندينسكي الأولى (سوسة، القيروان) تصور الحياة اليومية في الريف التونسي، التي أنجزها سنة 1905، بينما تحمل الثانية عنوان «المقبرة العربية» وهي لوحة زيتية تجريدية مميزة مُنفَّذة على ورق مقوى، بالإضافة إلى العمل الزيتي التجريدي الآخر المُسمَّى «ارتجال 10 الذي أنجزه الفنان الروسي سنة 1910 بعد عودته من زيارة استمرت أربعة أشهر إلى تونس رافقته فيها غابرييلا مونتر لرفد مهرجان أكتوبر الشهير في ميونيخ، بتصورات غربية عن الثقافة الشرقية تحت عنوان لافت: «تونس في ميونيخ». في تلك الزيارة الطويلة نسبياً، التقطت غابرييلا مونتر الكثير من الصور بكاميرتها (كوداك 2) التي ألهمت كاندينسكي لتشكِّل تجاربه الفنية في تونس أرشيفاً مهماً لأعماله التجريدية المبكرة.

بعد الحرب العالمية الأولى، بدأ باول كلي بإنشاء ملف لسلسلة صغيرة من الألوان المائية التي أوحت بها المنمنمات والشعر الفارسي، حيث اكتشف اندماج الأضداد في الألوان المائية المقطوعة والمعاد ترتيبها، فتبدو قطعتان ملتصقتان أسفل مركز اللوحة مباشرةً تملآن أجزاء اللوحة بأشكال عضوية متشابكة، لكن فقط في الجزء السفلي من اللوحة، حيث يستطيع الزائر أن يرى وجوهاً تشبه الأقنعة وأجساداً «ذابلةً» أما في أعلى اللوحة فتبدو أرقام لا حصر لها تلتف حول شكل جنين استخدمه باول كلي للإيحاء بالنمو، الحركة والتجدد! في المعرض أيضاً تشهد لوحته «البلدة العربية « التي أنجزها سنة 1922 بعد رحلته التي قام بها إلى تونس في الثالث من نيسان/أبريل 1914 والتي جاءت بعد نصيحة هنري ماتيس وكاندينسكي، حيث بقي هناك أربعة عشر يوماً فقط، زار خلالها القيروان ورسم أسوارها ومآذنها من بعيد.


 

وكان للرسام والنحات الفرنسي جان ليون جيروم أحد أشهر الأوروبيين الموهوبين الذين قدموا إلى الشرق العربي والإسلامي دور مهم في انتشار الفن العربي والإسلامي في أوربا والعالم، إلا أن متحف الفن في زيوريخ لم يستطع الحصول على لوحاته، لكنه استطاع عرض المطبوعات التي أُنتجت بعد وفاته، والتي تم نسخها وتوزيعها من قبل Maison Goupil المؤسسة المتخصصة في مجال الفنون الشرقية، حيث كانت لها فروع حول العالم، من منتصف القرن التاسع عشر بعد أن تزوج جيروم سنة 1863 من ماري غوبيل ابنة صاحب مؤسسة غوبيل في رحلته إلى مصر والساحل السوري الفلسطيني بين عامي 1868/1869، وكان في رفقته صهره ألبير غوبيل الذي أصبح في ما بعد من أشهر جامعي الفن الإسلامي في أوروبا.

على مر القرون، امتدت المنطقة الإسلامية إلى مناطق متنوعة: من جنوب شرق آسيا إلى غربها ومن شمال افريقيا إلى شبه الجزيرة الإيبيرية. واصطُلِحَ تاريخياً على تصنيفها على أنها «الشرق» وهو مصطلح انتقدهُ بشدة إدوارد سعيد في الدراسة المهمة التي أنجزها حول الاستشراق كمُرَكَّبٍ أوروبي، مركزاً على فكرة هيمنة الموقف الأوروبي على وصف الدراسات الشرقية والأدب، فيما أكدت مؤرخة الفن الأمريكية ليندا نوتشلين هذه الأطروحة سنة 1983 بالقدر نفسه من النقد على الفنون البصرية للاستشراق الغربي، وكان للمفكرين والباحثين تأثير حاسم في دراسات ما بعد الاستعمار في هذا المجال، فانتقد المفكر السوري صادق جلال العظم وآخرون من بعده ذلك الرأي، بل وجادلوا بأن التفاعلات عبر الثقافات بين الشرق والغرب كانت أكثر تنوعاً. لكن معرض Re-Orientation لا يركز على الاستشراق، بل يركز على شكل آخر من أشكال الاحتفاء بفن العالم الإسلامي فيكون نقطة البداية للرغبة العميقة في التماهي مع الآخر، والتأسيس لثقافة عالمية جديدة تحاور العين الأوروبية والروح الإنسانية بحيادية غير مألوفة على المدى البعيد والمتوسط، التي يختصرها الروائي الليبي الصادق النيهوم ببضع كلمات: «الحضارة لا يلخصها الغرب أو الشرق، بل يمثلها الإنسان القادر على تذوق الجمال أينما يراه».

 

المصدر: القدس العربي

اخبار ذات صلة
فِي حُبِّ الشَّهِيدْ
2018-04-21T06:25:08+03:00