"إن عدونا لا يفهم إلا لغة واحدة، هي لغة الحراب"، "وإن ألفي قذيفة من كلام لا تساوي قذيفة من حديد"، "وإن الطريق الوحيد الذي يفهمه العدو هو طريق الرشاش"، بهذه الكلمات عبّد القائد الشهيد د. عبد العزيز الرنتيسي، طريق الثورة والمقاومة ليسير من بعده الثوار على درب التحرير.
كلمات الرنتيسي ظلت حية في الذاكرة الوطنية لشعبنا الفلسطيني الذي يخوض مواجهة مفتوحة مع الاحتلال الصهيوني لم تتوقف، فغدت قبلة يستلهم منها اليوم شباب فلسطين الثائرون في القدس والأقصى، والخليل، وجنين، والنقب، ونابلس عرين الأسود معاني البطولة والفداء، وغدى الطبيب الثائر أيقونة ثورية ملهمة للأجيال الفلسطينية المتعاقبة.
ويوافق اليوم السابع عشر من نيسان/أبريل الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاد أسد فلسطين الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، بقصف طائرات الاحتلال الحربية لسيارته بمدينة غزة، حيث ارتقى شهيداً واثنان من مرافقيه.
على دربه سائرون
كلمات الرنتيسي ظلت محفورة في وجدان الملايين من أبناء شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية لتمنحهم الأمل بالحرية، وتشعل نار ثورة الجهاد في صدورهم، فيستلهمون منها معاني العزة والبطولة وهم يسيرون في درب الجهاد الطويل.
ألهبت خطب الرنتيسي وكلماته الحماسية مشاعر الجماهير، وأرهبت الصهاينة وأعوانهم، حتى بات يُنظر إليه على أنه أكثر قادة حماس صلابة وشكيمة، ولُقب بأسد حماس.
وخلال إبعاد الاحتلال لقادة المقاومة إلى مرج الزهور جنوب لبنان، لمع نجم الرنتيسي بعد أن اختاره المبعدون ناطقًا إعلاميًا باسمهم لقوة حجته وطلاقة لسانه وفصاحة خطابه؛ ما مكنه من لفت أنظار العالم إلى قضية المبعدين ظلماً إلى خارج فلسطين.
نجح الرنتيسي في تشكيل رأي عام عالمي ضاغط على الاحتلال الإسرائيلي، أفضى إلى عودة المبعدين إلى ديارهم فلسطين، فيما أعاد الاحتلال الرنتيسي إلى السجن بسبب تصريحاته ومواقفه التي أثارت حنق قادة العدو الصهيوني، ومنهم رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك رابين.
كلمات خالدة
" لن نفرط في شبر من الوطن، ولا نقبل بالوجود الصهيوني على أرض فلسطين، ولا أمن لهم في أرضنا"، "كتائب القسام ستزلزلكم في حيفا، في تل أبيب، تضربكم في صفد"، "لا ننسى الأسرى الذين يقفون الآن خلف القضبان، سنعمل بكل جد وعزم من أجل تحريرهم"، رسم الرنتيسي بكلماته طريقًا لمن بعده من إخوانه المجاهدين، فعملوا بجد وحققوا وعده، فحررت سواعدُهم غزةَ من الاحتلال الصهيوني، وزلزلت صواريخ القسام التي حملت اسم الرنتيسي حيفا وتل أبيب والقدس المحتلة.
براعة الرنتيسي في الخطابة وقوة حجته جعلت منه ناطقًا رسميًا باسم حركة حماس، فكسبت الحركة بفضله الكثير من الجماهير من أبناء الشعب الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية، ولم يترك محفلاً إلا ودافع عن فلسطين ومقاومتها، وتميزت خطاباته بالإبداع في استخدام الألفاظ، والتنوع في طرق وأساليب الخطابة التي دلت جميعها على عمق التمسك بثوابت الشعب الفلسطيني وحقوقه.
وسيراً على الطريق الذي خطه الرنتيسي ونتيجة للعمل الجاد والعزم الحديد؛ حققت كتائب القسام وعد الرنتيسي بتحرير الأسرى، وأرغمت الاحتلال على الإفراج عن 1027 أسيرًا خلال صفقة وفاء الأحرار، فيما لا تزال حماس تسير على الطريق ذاته، فقد أسرت كتائب القسام خلال معركة العصف المأكول عام 2014م الجندي الصهيوني شاؤول أرون، والضابط هدار غولدن وأعقبها أسر الجنديين هشام السيد أبراهام منغستو، وتحتفظ بهم حتى تُنجز صفقة تبادل جديدة وتحقق وعد الرنتيسي لبقية الأسرى.
في مواجهة الموت
وضع الاحتلال الرنتيسي على رأس قائمة الاغتيالات لما شكله من حالة ثورية ونضالية واسعة، إلا أن تهديدات الاحتلال المتواصلة لم ترهبه، فقد ترجمت كلماته حبه للشهادة، وتحديه الأسطوري لقادة الاحتلال.
تعرض قائد حركة حماس في قطاع غزة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي لثلاث محاولات اغتيال، قال عقب إحدى هذه المحاولات في رسالة تحدٍ واضحة: "ليفلعوا ما يشاؤون، ليقصفوا سياراتنا، بيوتنا، ليغتالونا، ولكن نعاهد الله ثم نعاهدكم أن نمضي قدمًا في مسيرتنا حتى نحرر ثرى الوطن من دنس الصهاينة الغاصبين".
وفي رده على تهديدات الاحتلال باغتياله قال الرنتيسي خلال مقابلة صحفية: "هل نحن خائفون من الموت! إنه الموت سواء بالقتل أو بالسرطان، نحن جميعًا ننتظر آخر يوم في حياتنا، لن يتغير شيء، سواء كان بالأباتشي أو بالسكتة القلبية، الموت واحد.. وأنا أفضل الأباتشي".
الشاعر الأديب
وبجانب براعته في الخطابة والكتابة، فقد أوتي الرنتيسي منذ شبابه مفاتيح الشعر والحكمة، فقد كان شاعرًا ثائرًا يغزل من بحور الشعر قصائد من مفردات الجهاد والتضحية.
وظف الرنتيسي موهبته الشعرية في خدمة قضيتها الأولى قضية فلسطين، وجعل من كلماته سلاحا ينافح فيه عن المقاومة ورجالتها، وانعكاسًا لروحه وملامحه الفكرية وأبعاده العقدية والوطنية، وقد ألَّف ديوان شعر سمَّاه "حديث النفس"، وضم بين دفتيه خمسين قصيدة، معظمها من أدب السجون تخليدا لمعاناة ونضالات الأسرى داخل الأسر.
تسعة عشر عاما مرت على رحيل القائد الاستثنائي والطبيب الثائر، لكن كلماته وإرثه المقاوم ظل حاضراً وحياً في الذاكرة الفلسطينية، وخط طريق المقاومة بدمائه وتضحياته لتكون نبراسا يضيء الطريق لمن خلفه من الأبطال والمجاهدين.