سبعة عقود ونيف مرت على حلم عودة المهجرة، يسرا طويل (84 عاما)، من قرية المجيدل المُهجّرة. إذ لم يكن بالحسبان أن الساعتين اللتين ظن والدها أنهما ستفصلان خروجهما من منزلهم وإيابهم إليه سيمتدان إلى 75 عاما، وأن الحلم بالعودة أصبح بعيد المنال، مع تقدمها بالسن ووفاة أقرانها، وعدم وجود أمل للعودة يلوح في الأفق عندها.
وتروي الحاجة طويل التي تسكن وعائلتها اليوم في مدينة حيفا رواية الحياة والتهجير من قريتها المهجرة المجيدل والتي كانت قائمة في الطرف الجنوبي لجبال الجليل، وابتعدت 6 كم جنوب شرق الناصرة و31 كم جنوبي شرق حيفا، في حديث صحفي تقول "كنت في العاشرة من عمري تقريبا، تركت ثيابي وألعابي، بعد أن أبلغنا والدي أننا سنعود بعد ساعتين فقط، إلا أننا عجزنا عن العودة بسبب النكبة وهدم العصابات الصهيونية للقرية. فاندثر الأمل وحال ألما يباعد بيني وبين بيتي وذكرياتي في منطقة الخربة بالمجيدل، كمن يباعد بين الروح والجسد".
ورغم سنها المتقدم إلا أن الحاجة يسرا طويل لا تزال تحمل ذكرياتها عن مرتع الطفولة، واستذكرت بالقول "ترعرعت في عائلة محافظة جدا، حيث كان والدي يمنعنا من الخروج من المنزل خوفا علينا، وعندما هُجرنا عام النكبة، تركنا كل شيء خلف ظهورنا خوفا من العصابات الصهيونية، فكانت فرائصنا ترتعد خوفا من آلة البطش الوحشية، ولم نتمكن من أخذ أي من أمتعتنا وأثاث منزلنا، لقد رمينا بكل أحلامنا وذكرياتنا، وكنا نتمنى لو نرجع القهقرى، لكن الظروف كانت تشكل سدا منيعا، يحجب عنا ذلك، وكان والدي رحمه الله قد قال لنا في حينها إننا سنعود إلى المنزل بعد ساعتين على الأكثر، وها قد مر ما يقارب سبعة عقود ونصف على تهجيرنا القسري، وبقينا حينها نسكن مدينة الناصرة، وكان يحدونا الأمل بالعودة قريبا ولكن هيهات".
هدم القرية ومساجدها ونجاة دير واحد
وعن معاناة العائلة في النكبة رَوَت قائلة إن "أخي كان حينها يبلغ من العمر سبعة أشهر فقط، كان نحيبه يزيد ألمنا ألما، وقامت العصابات الصهيونية بهدم المنازل عند دخولها القرية، غير عابة بمشاعرنا التي حُطمت، وأوصالنا التي قُطعت، وأرواحنا التي تشرذمت. لم نسكن حينها في وسط قرية المجيدل ذات المساحة الكبيرة مترامية الأطراف، بل منزلنا استقر على أطرافها، حيث كان يطلق على أراضينا مسمى الخربة، وكانت تقطنها عائلة الطويل، والتي تفرعت عنها 12 عائلة، وقد انتقلنا قبل وصولنا إلى الناصرة من منطقة الخربة في أطراف المجيدل إلى مركز البلدة آنذاك، ولاحقا تم تهجيرنا من مركز قرية المجيدل حيث تم هدمها، بفعل حقد ووحشية الاحتلال، وهدمت أيضا العصابات الصهيونية المساجد في القرية، ولكنها أبقت على دير مسيحي، وهو ما زال موجودا إلى يومنا هذا على طريق المجيدل".
وتابعت أن "الدير آوى حينها الأيتام والمهجرين، ومن تقطعت بهم السبل حتى انتهاء الحرب، في مشهد يشير بشكل لا يقبل الجدل، إلى أننا نعيش كشعب فلسطيني وحدة وطنية لا تفرقة فيها بين مسلم ومسيحي، وهذا ديدن الشعب الفلسطيني الذي تشده أواصر المحبة والأخوة على اختلاف العقائد والمذاهب. عندما كنت في قريتي لم يتسن لي التعليم، حيث سكنت في أطراف بلدتي المجيدل، كون المدارس كانت موجودة في الناصرة، وقريتنا لا مدارس فيها. كانت الحياة الاجتماعية مزدهرة في المجيدل، والعلاقات بين العائلات قبل النكبة قوية الأواصر، وكانت الزيارات المتبادلة هي الوجه الأبرز للحياة الاجتماعية آنذاك".
التهجير والنزوح إلى الناصرة
وعن محاولة العيش في الناصرة بعد هدم قرية المجيدل ذكرت الحاجة طويل "عند وصولنا إلى الناصرة استقبلتنا عائلة نصراوية بحنو وشغف، لقد قدمت لنا ما استطاعت إليه سبيلا، ولم تضن علينا بما ملكت، ولكننا لم نطل المكوث عندها تحرجا وخشية أن نكون ثقيلي الظل، حيث تدبرنا أمورنا، وانتقلنا للعيش في منزل مستقل داخل الناصرة نفسها".
وأضافت "لقد استقرت العوائل المهجرة من المجيدل في الناصرة ومحيطها، ولا أتوقع عودة قريبة للمجيدل، وبخاصة أن الجيل الأول للنكبة قد توفي أكثره، ولكن ما زال لدى الأجيال المتعاقبة تشبثا بالأرض، فجذورنا ضاربة في أعماق هذه الأرض، ولن يمحو أصالة الشعب الفلسطيني وارتباطه بأرضه مر السنين والأيام، ولا السياسات الغاشمة التي تحاول تغريبنا في بلدنا ومحو أي أثر يدل على انتمائنا".
وأكدت "لقد حدثت أبنائي وأحفادي عن قريتنا الجميلة، وأوليت أهمية كبيرة لتعريفهم بأرضهم وجذورهم، ومنازلهم المهدمة ومعالم قريتهم، وتضاريسها وآثارها، وعاداتها وتقاليدها، وثابرت على تعليمهم بضرورة تمسكهم بهويتهم، وتعلقهم بأرض أجدادهم التي هي جزء لا يتجزأ من فلسطين التاريخية".
وختمت الطويل حديثها بالقول "بقينا في ما بعد النكبة نذهب إلى قريتنا لنقف على أطلالها ورسومها في يوم النكبة، واليوم، حينما أرى ارتقاء الشهداء، فإن الذاكرة تعود بي إلى الوراء لأتذكر النكبة، ومن قضوا على يد العصابات اليهودية، وأتذكر المنازل التي هدمت بغير وجه حق".
عرب 48