لم يعد المراسل الصحفي بحاجة للبحث عن الكبار من أجل توثيق حدث معين أو سرد ما جرى بعد أي تصعيد على قطاع غزة، فالصغار باتوا شهود عيان على الموت والدمار.
في كل عدوان يتسابق الصغار للظهور على كاميرات التلفاز لسرد ما يحدث وكيف شاهدوا الصاروخ، ومتى هربوا من بيوتهم برفقة عوائلهم إلى أقرب منطقة أمنة.
تطور دورهم، فهم يروون قصص الشهداء من أقرانهم، يسردون كيف كانوا يتجهزون للرحلة، وكيف كانت احلامهم.
تقترب صغيرة من صحافي لتخبره أن رفيقتها التي صنعت لها أسورة من الخرز وأهدتها إياها يوم ميلادها رحلت شهيدة "يا عمو"، وذلك الفتي يعلق " محمود استشهد حكولي بس هو بخاف من الدم".
أمام برج الدولي الذي استهدفه الاحتلال بصواريخ أدت لاستشهاد طبيب الأسنان جمال خصوان وزوجته وابنه البكر، وكذلك عائلة الأسير المحرر طارق عز الدين الذي رحل برفقة ابنه وابنته، كانت تقف الطفلة رنيس المينا علها تلمح صديقتها ميار عز الدين، لكن ابن عم الشهيدة أخبرها أنها استشهدت.
التقط المصور نضال الوحيدي فيديو قصير لرنيس يسألها ماذا حدث لتخبره أن صديقتها شهيدة، ثم أعاد السؤال من قتلها، صمتت متعجبة ثم ردت عليه بلهجتها الطفولية " يعني مين اللي قتلتها الاحتلال قتلها".
طلب المصور الوحيدي من الطفلة أن توجه رسالة للاحتلال، صمتت طويلا وكان لنظراتها الرد الأقوى لتختم "الاحتلال كلاب".
هذه الصغيرة اعتادت منذ ولادتها أن تسمع صوت القصف بشكل دائم، وتنصت لقصص الشهداء، لكن الغصة التي تعيشها اليوم مختلفة بعد فقدها لصديقتها.
كل مرة تتشابه ملامح الحديث عن الشهداء رغم اختلاف التفاصيل، لكن في هذه المعركة القصص التي ينصت إليها ونتبعها هي لأطفال أحياء فقدوا أصدقاء الدراسة.
تكتب عبر صفحة الفيسبوك زوجة الشهيد أسامة الزبدة الذي ارتقى في معركة سيف القدس:" هذا القمر علي عز الدين صديق ولدي جمال المحبب والمقرّب (..)الجار ورفيق الفصل والمدرسة وصلوات الجمعة (..) لم أخبر جمال بعد بارتقاءه (..) ولا أعرف أبدًا كيف سأخبره لأن قلبًا بحجم قلبه الصغير لا يحتمل كل هذا".
في حين دونت آية صبري وهي أيضا زوجة الشهيد أسامة جنينة موقفا حدث معها صباحا:" أَسررتُ لعمرو – ابنها الكبير- بأن "ميار عز الدين" استشـهدت وسنخبر لين – ابنتها وصديقة الشهيدة- بالتدريج".
ثم تكمل:" صدم ابني وغادر، وفي لحظة أنانية ظننتُ أن عليه أن يكبر أكثر بكثير، لكني تراجعت وناديته ثانية: يامِن جمال خصوان انقصف بيته ووالده استشهد، ولا أعرف كيف حاله، صُعق وبكى!.
الأطفال شهود العيان في هذه المعركة هم تلاميذ في مدرسة "أوائل وقادة" وبعضهم من أبناء الشهداء، يتقاسمون الوجع الذي ترعرعوا عليه، ومع ذلك هم صغار بلعبهم وطموحهم.
حين أفاقت غزة على استشهاد 13 مواطنا من خيرة أهلها، كان تلاميذ المدرسة على موعد من رحلة مدرسية.
تكتب أصالة أبو طاقية والدة الطفلة يمنى: استيقظت على حركة يمنى، ناديتها وسألتها ماذا تفعلين، أخبرتني أنها أحبت أن تفاجئني بتجهيز نفسها وحتى لا تتأخر عن الرحلة التي طال انتظارها.
وتابعت:" كسرتُ خاطرها مجبرة حين أخبرتها "الرحلة تأجلت يا حبيبتي"، لم أكمل جملتي حتى انهالت دموعها "ليش يا ماما أسبوعين بنستناها" " ثم أجابتها: الاحتلال قصف بعض الأماكن والوضع غير مناسب للخروج وأن كل الأماكن في الخارج مغلقة حتى إشعار آخر!
تقول الصغيرة لأمها "ماما انتِ دايما بتقولي لعله خير" وين الخير بتأجيل الرحلة، لترد الأم بقدر عقلها حتى استوعبت على مضض.
لكن الغصة لم تذهب، فسألتها أمها لاحقاً هل تعرفين علي عز الدين يا يمنى؟ بسرعة أجابت "آه يا ماما أشطر واحد بصفه والمعلمات بضربوا في المثل ومؤدب ودايما يكرم ليش بتسألي عنه ؟، فردت: استشهد ووالده وشقيقته ميار.
سيل من الأسئلة رددتها الصغيرة يمنى "عنجد بتحكي يماما، كيف، ليش، وين، طيب وين تصاوب، تأكدي يماما يمكن عايش، كل المدرسة هتزعل عليه.
ثم بعدها بقليل عاودت الحديث " ماما خلص بدناش رحلة، بس بتعرفي والله على راح على رحلة أحسن من كل رحلنا، راح على الجنة وعند الرسول".