قراءة: رشا فرحات
تدور أحداث هذه الرواية حول الشاب وليد دهمان، المؤلف والصحفي الفلسطيني البريطاني الذي ذهب إلى مصر للدراسة منذ أربعين عاما، واضطر للنزوح بعد حرب 67 على قطاع غزة، فلم يستطع العودة إلى القطاع إلا بعد أن حصل على الجنسية البريطانية فعاد إلى القطاع كسائح بريطاني، بهدف رؤية أمه بعد تلك السنوات، ولهدف آخر هو استكمال روايته التي يحكي فيها قصة بطل عاد إلى وطنه بعد أربعين سنة من البعد.
يستعرض الكاتب ربعي المدهون تفاصيل زيارة بعد أربعين سنة من الشتات، منذ صعود البطل إلى الطائرة متوجها إلى مطار تل أبيب، وتعرفه على ممثلة إسرائيلية جميلة ودخوله في وصفه إلى أعماق ما تحدث به نفسها، لدرجة انه قسم الجزء الأول من روايته على شكل مذكرات شخصية من فصول متتابعة فصل تحكي فيه الممثلة قصتها وما مرت به من تجارب حياتيه، وفصل يستعرض فيه وليد دهمان ما يشعر به تجاهها وما يدور في مخيلته وتصوره لألم الشتات والغربة ، وشوقه لأيام الطفولة والصبا التي حكى تفاصيلها في فصل مستقل في بداية الرواية، ولكن المؤلم الذي يثير ثورة القارئ، أن المدهون الذي كان يبحث عن السلام المشترك في روايته قد بالغ في تصويره كثيرا في لقاءه بهذه الإسرائيلية، حتى وصل إلى حد الألفة والحنان المبالغ، وهذا لا يحدث بين فلسطيني يجلس بجانب إسرائيلية يتعرف إليها للمرة الأولى، ثم يتذكر وجع طفولته، ومعاناة أسرته بسببها في ذات اللحظة.
وهنا يظهر التناقض، فكيف لشعب بنى حضارته وتقدمه على دماء وجثث شعبه، سيعقد معه صفقة للسلام، وهذه الحقيقة التي أظهرها المدهون ثم تجاوزها متخيلاً ببساطة أن عملية السلام مسموحة لمجرد أن إسرائيلية جميلة جلست إلى جانبه في الطائرة وأبدت تعاطفا معه لبعده عن حضن أمه كل تلك السنين.
المدهون حاول أن يصور تلك المرأة الإسرائيلية، بصورة الملاك المتألم من اجل الشعب الفلسطيني المسلوب، ثم تسافر إلى تل أبيب وتسكن في شقة فاخرة على شواطئها الإسرائيلية الفلسطينية الأصل، وعلى الرغم من ذلك يصورها بأنها متعاطفة ودودة، بل وتجمعه معها علاقة صداقة إلى حد ما ويتبادلان العناوين والأرقام، بل أن الكاتب بالغ في ذلك أيضاً وادخل شخصيات يهودية أخرى في تفاصيل قصتها، تظهر ذات التعاطف وذات الإنسانية، ناسيا دماء أبناء شعبه، ناسيا المجازر المتلاحقة التي تعرض لها.
ثم يدخل وليد دهمان بعد وداعه لتلك الإسرائيلية إلى قطاع غزة، وتتحول بطلة الرواية إلى جزء من هامش الرواية (وهي التي تحمل الرواية اسمها)، فلا يظهر لها دور واضح مطلقا حتى تعاود الظهور بشكل عاجل ومختصر في الفصل الأخير من الرواية، بعد أن يصف رحلته إلى قطاع غزة والذي يبدو واضحا أنها رحلة الكاتب الحقيقية، ففيها تفاصيل تبدو أنها حقيقية فعلا، ولكن في تلك الفصول المتتابعة والتي يصف فيها المدهون رحلته تلك سيطر عليها طابع التعالي والنظر إلى سكان القطاع " عائلته" على أنهم مجتمع متأخر، متخلف ، يذبح بعضه بعضا، فها هو يبحث عن أصدقاء طفولته فيجدهم قد قتلوا ويبحث عن الكثير من الشخصيات المنتمية إلى أسرته فيجدهم قد قنصوا.
والمشهد الأكثر إيلاما من الموت، هو عثوره على صديق طفولته الكفيف الذي كان ينوي أن يكون فنانا تشكيليا، وقد حولته الإعاقة والحاجة إلى شحاذ مقره بوابة بلدية غزة، وهذه صورة لا تليق بالمجتمع الغزي الذي قدم اكبر وأعلى درجات الكفاح والصمود والتميز، بثوب قذر، فمنذ متى نترك أبناءنا الموهوبين يتحولن إلى شحاذين، بسبب إعاقتهم، إن هذا التصوير الذي يعتبر حالة مر بها المؤلف، يعد ظلما لمجتمع كامل.
ويؤخذ على الكاتب أيضا هو استهزاءه من رجال المقاومة ووصفهم بالمليشيات، واستهزاءه وعائلته من تلك الفتاة التي فشلت في عمليتها الاستشهادية في معبر ايرز، وهذه جريمة بحق الشعب الفلسطيني الذي حتى وان كان مؤيدا للسلام، فهو لا ينسى دور رجال المقاومة ولا تسمح له وطنيته بأن يهزأ بهم.
كما والمفجع أيضاً هو عرض بعض الحقائق المغلوطة والتي لا ادري أكانت عمدا أم سهوا، فهو يحكي عن قصة اغتيال أستاذ جامعة الأزهر ياسر المدهون، الذي أطلق عليه اسم ياسر دهمان فينقل الحدث إلى الجامعة الإسلامية بدلا من جامعة الأزهر وهذا تغير تاريخي إجرامي في الحقائق.
الرواية التي سارت مسرعة وبشكل مختصر في الفصل الأخير حتى انتهت دون نهاية واضحة،تظهر استفهاما آخر في نهايتها، فها هو يرسل في الفصل الأخير رسالة إلى الإسرائيلية التي يعدها أن يقابلها في لندن بعد رجوعه من غزة، وتعده هي بلقاء في ذات الموعد لتقدم له وثائق على درجة كبيرة من الأهمية وتعده بأن يحقق سبق صحفي في نشرها، ولكنها تقتل قبل أن تأتي لرؤيته حسب الموعد، ثم تنتهي الرواية..تاركة للقارئ أن يستنتج النهاية، ويبدوا واضحا أن الكاتب كان يريد أن يطرح استفهاما في نهاية روايته، من قتل رفيقته الإسرائيلية المسالمة!!؟ وهذه جريمة أخرى، لأنه وضع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في ذات الكفة وذات الشراكة في الجريمة، وترك الاستنتاج للقارئ، ناسيا للأسف بأنه رجل فلسطيني عانى الغربة، والقتل وسرقة الوطن، بسبب هذا الإسرائيلي الذي يستجدي فيه سلاماً لن يكون.
بقي أن نقول أن مؤلف الرواية هو ربعي المدهون، وهو كاتب فلسطيني من مواليد قرية عسقلان عام 1945، صحفي يحمل الجنسية البريطانية وما زال مقيما في لندن حتى الآن.