منذ أن كانت نطفة مهربة، انتظر الجميع ولادتها، فهي تشبه الشمس الساطعة منذ أن خرجت للحياة، تمثل بصحبة والدتها (سناء دقة) جيشا للدفاع عن والدها الأسير وليد دقة الذي أمضى حوالي 37 عاما داخل السجون (الإسرائيلية) وتبقى من فترة محكوميته سنتان.
ويعاني أبو دقة وضعا صحيا تدهور في الشهور الأخيرة نتيجة إصابته بسرطان نادر يصيب نخاع العظم.وبدلا من ترديد أناشيد الطفولة، باتت ميلاد تحفظ عن ظهر قلب الهتافات الداعمة لوالدها، أما الأغاني الوطنية فهي التي يمكن أن تهدىء طفلة لم تتجاوز الرابعة من عمرها، كما تحفظ اسم ابيها الذي نقش على اليافطات الكبيرة تلونه كما تشاء.
وفي الوقفات الداعمة لوالدها من أجل الإفراج عنه لسوء وضعه الصحي، تقف شامخة تردد اسمه بكل براءة، وتقول (الحرية لوليد دقة، الحرية لبابا).ويحتاج والد الصغيرة عناية صحية مكثفة للرئتين والكلى والدم، كما يحتاج إجراء عملية زرع نخاع بالغة الحساسية (علماً بأنه يتوفر أكثر من متبرع) إلا أن البيئة العلاجية داخل السجون لا يتوفر فيها الحد الأدنى من متطلبات التشافي، بسبب الحراسة المشددة عليه من إدارة السجون.
ورغم الظروف الصحية القاسية إلا أن وجود ميلاد في حياة وليد تعتبر حياة وأملا بالنسبة له، فهي من تسكن أوجاعه حين تزوره وتجري نحوه لتنادي بابا، وهي تحاول أن تلمسه أو تتحدث إليه عبر سماعة هاتف طيلة الوقت تشوش حديثهم، وهي أيضا من تهرع إليه حال سمح لها بالدخول واحتضانه.حضن ميلاد هو جرعه الكيماوي والمسكن الذي يقاوم فيه مرض السرطان، فعادة مرضى السرطان يتهربون من موعد جرعتهم إلا أبو ميلاد فهو ينتظرها بعناق صغيرته ووحيدته المدللة، فهو من يخطط كيف سيقضي بقية سنوات حياته برفقة الصغيرة، وهي من ستحفظ تاريخه النضالي، وستكون موسوعة متنقلة تحكي حكايات الأسرى التي التقطتها وهي في زيارة للسجن، أو من القصص التي يسردها والدها عليها.
وفي شهورها الأولى كانت ترافق ميلاد والدتها وهي تجوب بلدانا عربية وأوروبية للحديث عن زوجها الأسير الذي يريد انتزاع حريته، اليوم كبرت الصغيرة وبقيت تحارب لانتزاع حرية والدها ليرى النور ويشفى من مرضه.ولأن ميلاد لا تشبه الصغار في تفاصيلها اليومية، فهي تذهب إلى بيوت المحررين الذين رافقوا والدها لعقود في زنازين الاحتلال، تتعرف عليهم وتناديهم بـ (عمو)، وتردد اسم أبيها وتفرح حين ينادوها "ابنة وليد".
سنوات عمر ميلاد القليلة لم تسعفها لإدراك ضخامة الأحداث من حولها، لكن الظروف التي وضعت فيها جعلتها أكثر وعيا وادراكا لقضايا كبيرة عاشتها بتفاصيلها.