في محاولة فنية جريئة للنبش في واقع الصحافة التونسية قبل الثورة، وأمام جمهور نوعي وكثيف، قدم الممثل التونسي خالد هويسة مسرحيته "السلطة الرابعة" حديثا في دار تونس بباريس، ضمن جولة تشمل بعض المدن الفرنسية.
المسرحية التي تنتمي إلى نوع المونودراما (مشهد مطول لشخص واحد) أخرجها عبد القادر بن سعيد الذي اشترك مع الممثل خالد هويسة في الكتابة بينما تعود الفكرة الأصلية للصحفي ناجي الزعيري.
وتطرح المسرحية التي تمتد ساعة ونصف الساعة قضية شاب حالم يطمح إلى أن يصبح صحفيا مهما ويمتلك أيديولوجيا وأفكارا غلّف بها أحلامه وطموحاته لدخول عالم السلطة الرابعة، ولكنه يجابه في رحلته الصعوبات والانكسارات والتضييقات من قبل السلطة، غير أن همّه الوحيد كان البحث عن النجومية ليكون معروفا في البلاد.
بإضاءة خفيفة وديكور بسيط وخشبة فارغة تقريبا إلا من كرسي ومرآة ومصباح خافت، تبتدئ المسرحية بمشهد صامت لشيخ وحيد ومنكسر ومنعزل بخطوات ثقيلة ومثقلة بماض متناقض، يتجه مباشرة صوب المرآة ليتأمل وجهه ويتحسس لحيته الكثة وأطرافه ويشرع في الكلام والاعتراف واسترجاع أطوار حياته.
كوميديا سوداء
وعبر لعبة "الفلاش باك" سرعان ما يتعرف الجمهور على الشخصية المركزية الوحيدة؛ الصحفي علي الشامخي الملقب بالدكتور والبالغ من العمر 63 عاما، وهو نفسه الشاب الحالم الطامح الذي غادر مدينته القيروان ليلتحق بكلية الحقوق في التسعينيات من القرن الماضي، ونراه يصرّح لصديقته في الجامعة "أماني" بأن حلمه أن يصبح صحفيا مهما ومؤثرا في المجتمع.
يقول الدكتور إنه لا يحب أن يكون مجرد صحفي، بل صحفي كبير ونجم يحبه الناس ويخافونه، ويواصل الشاب الجامعي الطامح الحالم المثقف المتأثر بقراءاته لكتّاب مثل حنا مينة وعبد الرحمن منيف وعصمت سيف الدولة ومكسيم غوركي وجون شتاينبك.
وفي لحظة رمزية متناقضة ممزوجة بالكوميديا السوداء، يدفع المخرج عبد القادر بن سعيد بطله علي الشامخي إلى أداء قسم الصحافة في أول يوم عمل بعد أن حقق حلمه بالدخول إلى عالم السلطة الرابعة، فنراه يصرخ "أقسم بالله العظيم أن أحترم مهنة الصحافة وقدسية الخبر وأعمل بإخلاص وجدية…"، إلى غير ذلك من الشعارات الحماسية الرنانة التي سيتنكر لها بعد مدة قصيرة.
وتبدأ صدمة الصحفي الشاب علي السعيد ببطاقة الصحفي لأول مرة، منذ أيامه في عالم الصحافة، حين يقترح على رئيس تحريره مواضيع جادة عن دور المثقف في المجتمع ودور الشباب في الحياة السياسية، فيوجهه رئيس التحرير ويكلفه بكتابة تقرير وتحقيق ميداني عن عيد الحب، وبعد أن يذعن مكرها ويقوم بالتحقيق ينشر من دون توقيعه، وتلك صدمته الثانية في لعبة إذلال ذكية وتلاعب ساخر من المخرج عبد القادر بن سعيد ببطله علي الشامخي أو خالد هويسة.
وبلعبة سقوط اسم الصحفي علي الشامخي في المطبعة منذ المقال الأول، يدرك الجمهور والمتلقي كناية سقوط المبادئ والقيم التي طالما دافع عنها الشاب الحالم والطالب اليساري المثقف الذي كان يردد مفتخرا منذ حين أنه خريج مدارس وتيارات التمرد والصمود في الأدب والفلسفة من أمثال معين بسيسو وناجي العلي وأمل دنقل وغيرهم.
ولكن سخرية وتنكيل المخرج ببطله لا يتوقفان عند هذا الحد، بل يتواصلان في صدمة ثالثة للصحفي الشاب الذي استغل غياب رئيس تحريره، فيحاول التمسك بأحلامه والتمرد على الخط التحريري المهادن للصحيفة، ويكتب مقالا يفضح فيه واقع السياحة في بلده بعنوان "معضلة شركات التسول في بلد السياحة"، فيضطر رئيس التحرير إلى قطع إجازته والعودة مسرعا خوفا من أن يتسبب المقال في غلق الصحيفة من قبل السلطات.
وبعد أن يتعرض للتوبيخ من رئيسه، تقوم الجهات الأمنية باختطاف علي الشامخي من أمام الصحيفة ويقع التحقيق معه والضغط عليه واتهامه بالتعامل مع جهات أجنبية وتقويض الأمن العام وفيض من التهم الجاهزة التي عادة ما تلصق بالمعارضين.
ولإضفاء مزيد من التشويق والحبكة والتلاعب بالجمهور وببطله، يزج المخرج بحكايات أخرى ضمن التطور الدرامي للمسرحية ولعبة الصراع مع السلطة، فنكتشف قصة الصحفي السياسي نور الدين الذي يهدد بعد كل عملية قص لإحدى مقالاته بالاستقالة، وأما الصحفي والحقوقي شرف الدين الزموري الذي يروي حكايته للصحفي الشاب علي الشامخي فيكتشف الجمهور أن السلطة الاستبدادية سجنته وعذبته ومنعته من الكتابة والتعبير عن رأيه، فقط لأنه أراد التجديف عكس التيار والتمرد، وحاول في مقالاته فضح منظومة الفساد والوزراء المرتشين والسلطة الفاسدة.
الصراع مع السلطة
تتوالد الحكايات وتتشابه حكاية داخل حكاية مثل عرائس "الماتريوشكا" الروسية، ولكنها تفضي كلها إلى لعبة الكذب وتزييف الحقائق والتضييق على حرية التعبير من أجل عدم إزعاج راحة الحاكم وإقلاق السلطة المستبدة.
وفي لحظة مفصلية من تصاعد الخط الدرامي للمسرحية، وفي لعبة تنفيس فنية ذكية من المخرج عبد القادر بن سعيد، لينطلق صوت من وراء الستار كأنه الضمير المستتر للبطل الإشكالي، يصرخ ويمضي في طرح الأسئلة ليزيد من حيرة البطل علي الشامخي: "أنا شكون صحفي نخدم ولا يخدمو بيا؟ ناقل للخبر ولا يلقنو فيا كيفاش نكتب وعلاش نكتب وشنوة يلزمني نكتب؟ (الذي كتبته هو الذي يجب كتابته أم لا…؟)".
ولكن علي الشامخي لا يلتفت إلى صوت ضميره الغائب، ويصرخ "نحب نولي صحفي معروف عندي صحيفة ومكتب وسيارة فاخرة.."، فيجيبه الصوت مهادنا "متزربشي (لا تسرع) يا علي كل شيء يجي في وقتو يا علي..".
ويبدو أن اللحظة قد حانت بسرعة كي يحقق علي الشامخي حلمه بالشهرة والرفاهية ولو على حساب مبادئه وضميره، حيث سرعان ما يدخل عالم الصحافة المهادنة من بابها الكبير ليستغل حضوره في حفل عشاء بمنزل رجل أعمال معروف وبحضور وزراء ووجهاء القوم، ويبدأ في مغازلة السلطة والمال مباشرة، ويكتمل مشهد زواج المصلحة بين السلطة الرابعة وسلطة المال والأعمال والفساد بلوحة رقص البطل على أنغام أغنية داليدا "حلوة يا بلدي" مع المسؤولة الكبيرة في الدولة.
لقد فهم علي اللعبة أخيرا وعرف ما تحبه السلطة ولم يفوّت فرصة وجوده في مجتمع المال والأعمال، ليخلع عنه ثوب العفة والشرف والأمانة وكل الشعارات الرنانة التي رددها في بداية طريقه، وليتدثر برداء البراغماتية والأنانية ويتخلى عن مبادئه وقيمه.
الجزيرة نت