قائمة الموقع

جرائم القتل..ملف يعالجه القانون وأهوال تجترها التقاليد

2009-10-31T07:48:00+02:00

"علماء فلسطين": تهجير أهل الجاني ليست من آداب الشرع

مركز حقوقي: يجب أن تحمي السلطة عائلة الجاني

الشرطة: نوفر الحماية الميدانية خشية من ثأر أهل القتيل

مختص نفسي: القضية بحاجة لثقافة تحتكم للشرع والقانون

غزة- عدنان نصر 

لم يتمالك المواطن (س. و) أعصابه عندما دخل طفله الصغير المنزل والدماء تنزف من جبينه، بعد أن رشقه صديقه الذي يقطن بجوار مسكنه بحجر في وجهه، صاح الرجل في وجه جاره واحتدم النقاش بينهما وعلا صياحهما، وفي لحظة عصبية، غلت الدماء في عروقه، وحجب الظلام الرؤية عن عيونه، استل سكينا وطعن جاره عدة طعنات قاتلة فارداه قتيلا مضرجا بدمائه.

تسمر (س) مشدوها أمام ذلك المنظر المروع لبرهة من الوقت، وتمالكه شعور بالجنون لفعلته السوداء ، فأطلق ساقيه للريح تلاحقه صراخ زوجة القتيل وعويل أطفاله.

لم تمض ساعات قليلة حتى تمكنت الشرطة من القبض عليه، وزجت به في السجن لينال عقابه... لكن ملف القضية وإن أسدل بنظر القانون، إلا أنه فتح بوابة العذاب أمام عائلة القاتل التي أرغمت على هجران بيوتهم، وعدم اصطحاب شيئا من مقتنياتهم المنزلية، لتعيش في منفى، وتشرد في وطنها الذي لا زال يحتكم للعادات والتقاليد رغم أن القاتل ينال عقابه في معظم الأحيان.

بدون ذنب

لا يكاد يمضي شهر دون أن نسمع عن جريمة قتل هنا أو هناك، لا يعدو سبب ارتكابها عن حفنة نقود، أو مشكلة افتعلها صبية صغار السن، وربما يكون السبب تافها يخجل المرء من ذكره.

وبحسب الأعراف والتقاليد السائدة في قطاع غزة- فإن وجهاء الإصلاح العشائري تفرض على عشيرة الجاني الرحيل من بيوتهم حتى يتم الصلح مع عائلة القتيل، وقد تحتاج عائلة القتيل سنوات عديدة لترتيب حياتها من جديد بعد أن تضطر لبيع مساكنها بأبخس الأثمان، وتنقطع صلتها عن عالمها القديم، وينتابها دائما شعور الخوف أن يطاردها الثأر، لتحصد عواقب وخيمة في مجتمعنا الفلسطيني.

وسجل مركز الميزان لحقوق الإنسان تسعة حالات لجرائم قتل منذ بداية العام وحتى  تاريخ 7/4/2009م في قطاع غزة بسبب الشجارات العائلية.

وشهد مخيم البريح وسط مدينة غزة الأربعاء الماضي جريمة قتل لمواطن يبلغ من العمر (23 عاما) أصيب بطلقات نارية في شجار عائلي.

تداعيات جرائم القتل لم تؤرق عائلات الجناة فقط، فالجهات المختصة بنزع فتيل الأزمة، وإعادة المياه إلى مجاريها بين عائلة القاتل والقتيل لا زالت تدور في حلقة الأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع، ما يحمل أهالي الجناة هموما طائلة في أغلب الأحيان.

وساهمت لجان الإصلاح بالتعاون مع رابطة علماء فلسطين في حل آلاف القضايا العالقة بين المواطنين، حيث تضم اللجان عدداً من أهل العلم والوجهاء الملتزمين والمعروف عنهم بالصلاح والقدرة على حل النزاعات.

ورفض الدكتور نسيم ياسين أمين سر رابطة علماء فلسطين هذه العادة وقال : " هذه العائلات لا ذنب لها، تهجيرها من بيوتها أمر يرفضه الشرع، مستشهدا بالآية القرآنية " ولا تزروا  وازرة وزرة أخرى".

وأضاف ياسين في حديثه لـ "الرسالة": " المفروض أن يسدل الستار على جرائم القتل بمجرد تقديم القاتل للعدالة، لافتا أن العائلة قد تبتعد في بعض الأحيان عن موطن سكناها لمدة بسيطة درءا للمفاسد، لأن القضية تكون بذروتها ولم تبرد الدماء الحامية بعد. "

*** ظاهرة سيئة

وبغض النظر عن تلك المدة البسيطة التي تحدث عنها ياسين، فإن المجتمع الفلسطيني لا زال يكتوي بحمم العادات والتقاليد، فهناك عشرات العائلات التي طال غيابها عن منازلها منذ سنوات، وانحرف مسار حياتها، لتبدأ طريقها من نقطة الصفر.

ويرفض الشرع بكل الأحوال هجران العائلات عن منازلهم بصرف النظر عن المدة الزمنية, كما قال ياسين : " نحاول في الرابطة معالجة تلك المسألة ، وساهمنا في إعادة بعض العائلات إلى بيوتها رغم حنق أهل المجني عليه، متمنيا أن يصدر المجلس التشريعي قرارا بعدم تهجيرهم.

ويوافقه الرأي الدكتور ماهر الحولي عميد كلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية، معتبرا أن تهجير أهل الجاني قضية ليس من آداب الشرع، ومسألة ما أنزل الله بها من سلطان.

وقال الحولي : " إذا كانت القضية لحل مؤقت بهدف تهدئة الأنفس ثم تعود العائلة إلى منازلها فإن العرف يتدخل من  أجل نزع فتيل المشاكل(..)، لكن أن يكون الأمر قرارا شرعيا فهذا غير وارد.

ووصف ياسين تلك العادة التي تحكم المجتمع الفلسطيني منذ فترة طويلة بالسيئة، مشيرا إلى أنهم يبذلون الجهود المتضافرة في الحكومة والمجلس التشريعي لتقليص هذا المفهوم .

ونوه أن محاربة تلك الظاهرة المرفوضة دينيا وعلميا أمر ليس هينا، فالقتل عادة قديمة لا يخطها القلم بين ضحية وعشاها، مؤكدا أن رابطته تمكنت من حل مشاكل عديدة في مدينة غزة ودير البلح بالمنطقة والوسطى بمساعدة الشرطة.

وفي الطرق المتبعة لإخراج أهل الجاني من بيوتهم مع ضمان عودتهم عند حل الخلاف أكد الحولي على ضرورة أن يكون هناك كفلاء من باب الاعتداء على العائلة، مضيفا " العرف يتدخل بهذه  القضايا لكن إذا توافق مع الشرع فهو جائز."  

عواقب وخيمة

ويشير سمير زقوت منسق وحدة البحث الميداني في مركز الميزان لحقوق الإنسان إلى أن هذه الأشكال من  مظاهر غياب سيادة القانون، واللجوء لأخذ القانون باليد.

وقال: "يجب أن يكون هناك قانون ينظم العلاقة بين الناس، فمن غير المعقول ظلم أناس أبرياء لا ذنب لهم، مضيفا على السلطة أن تعاقب القاتل وفق القانون وأن تحمي أقربائه، وتفرض هيبتها على الجميع."

وأشار زقوت إلى أن تلك المظاهر تضاعفت بعد قدوم السلطة الفلسطينية، منوها إلى أن الفصائل الفلسطينية واللجان العشائرية كانت قادرة على لجم تلك الظاهرة قبل ذلك الحين.

ويصف المقدم عبد الباسط المصري مدير عام المباحث تلك الظاهرة التي ترسخت في المجتمع الفلسطيني بالسيئة كسابقه ياسين ، مشيرا إلى أن الشرطة تتخذ اجرءتها لحماية أهل الجاني منذ وقوع الجريمة خشية من ثأر عائلة القتيل.

وقال المصري: دورنا في الشرطة أن نوفر حماية عاجلة لممتلكات أهل الجاني بحسب السوابق الخطيرة في هذا الموضوع، خشية من إلحاق الخسائر المادية بعائلة القاتل لأنها لن تحتمل تلك المأساة، مشيرا الى أن الشرطة تنتشر على الفور في المكان لتوفير الحماية المطلوبة لخروجهم الطارئ حتي يتم التوصل لاتفاق.

وقال: " خروج اهل الجاني محكوم بظرف ميداني تلقائي والشرطة تؤمن خروجهم من المكان وتوفر لهم الحماية الميدانية، مؤكدا أنه في حال عودتهم عشوائيا يترتب على ذلك مشاكل جسيمة.

حصاد شامل

ويترتب على هجران أهل الجاني لبيوتهم مشاكل نفسية لا حصر لها كما يشير د. درداح الشاعر أستاذ علم النفس والاجتماع في جامعة الأقصى إلى أن تلك القضية لا أساس لها في الشرع، لأن تهجير عائلة الجاني ظلم ، كما هو ظلم للقتيل.

وقال: "القضية بحاجة لثقافة مجتمعية جديدة تحتكم للشرع والقانون، وتنأى عن تلك العادات البالية التي تخلق أزمة وتوسع دائرة الظلم والعنف الاجتماع."

وعن سلبيات تلك الظاهرة يشير الشاعر إلى أن هناك حصادا اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا مريرا تجنيه عائلة الجاني ؛ بعد أن تنفصل علاقتها بالجذور التاريخية التي عاشت بها، فهي تهجر من تحبه وفي ذلك عقاب اجتماعي لا مبرر.

ونوه إلى أن هجران البيوت يسبب شعور بالإحباط والاكتئاب لتك العائلة لأنها أصبحت تدرك أن المجتمع لم يعد قادرا على إنصافها، موضحا أن هذا الشعور السيئ قد يدفعهم لارتكاب جريمة أخرى.

ويرى الشاعر أن التخلص من تلك العادات القديمة يحب أن تكون عبر الدين الذي يعتبر محركا أساسيا، وقال: على الدعاة، والخطباء تغيير ثقافة العين بالعين، وألا تكون تلك العقوبات على أهل الجاني، مشيرا إلى ضرورة محاربة المناهج التعليمية، ووسائل الإعلام لتلك العادات السيئة، وخلق جو عام لوأد تلك الظاهرة في مهدها، مؤكدا على ضرورة أن يوضح القانون الدور القضائي في تلك القضية.

وتبقى تلك المسألة مثار جدل ما لم تتخذ الجهات المختصة قرارا حكيما ينجي أهل القاتل من عادات وتقاليد بالية عجزت الحكومات الفلسطينية عن طيها منذ زمن بعيد.

اخبار ذات صلة