أربعون عامًا نصفها في سجون الاحتلال والحكم بالمؤبد.
مرّ على وجود باسم في السجن حوالي عشرين عامًا. فقد اعتقلته السلطات الإسرائيلية عام 2004 بعد تخرجه في جامعة النجاح الوطنية بقسم الصحافة والإعلام، وحكم عليه بالسجن المؤبد!
وهنا توقفت الحياة عن سيرتها المعتادة بالنسبة لباسم وبدأت حياة أخرى تحكمها طبيعة العلاقة بين السجين والسجّان وتفاصيل الحياة المختلفة داخل جدران الزنزانة ووراء القضبان.
لا شكّ أنّ الاعتقال شيء وحشي يسحق روح الإنسان ويقتل أمله في العيش كبقية البشر، فهو يفتقد إلى العدل والحريّة والكرامة ونور الشمس. قد تنقلب المفاهيم لديه ويسيطر عليه الإحباط ويقضي حياته يائسًا ومُعذّبًا. وقلّة من البشر من يواصلون حياتهم داخل السجن محاولين التغلب على وجود الجدران والقضبان، محلّقين بأرواحهم في فضاء أوسع.
وقد تغلّب باسم على تلك الحياة التي فرضتها عليه سلطة الاحتلال بالكتابة.
شاعر وروائي
عندما اعتقل باسم كانت له محاولات بسيطة في كتابة الشعر. لم تقف القضبان حاجزًا بينه وبين العالم الخارجي، فقد أرسل إليّ تلك الأشعار عام 2005 عن طريق والده. وعرفت حينها أنّ باسم لن يستسلم، وأحسنتُ الظنّ، وتخيّلت أنّ فترة سجنه لن تطول، وسيُخفَّف الحكم، ويخرج إلى النور.
لكنَّ السنوات مرّت بسرعة، وصار باسم في الأربعين من عمره، ولم يتغيّر شيء بالنسبة لمصيره. الحياة في الخارج تجري إلى هدفها. وهو وراء القضبان يسعى إلى هدفه “الإبداع”. والكتابة في السجن نوع من أنواع التحدي والمقاومة للاحتلال بالتغلب على الظروف غير الإنسانية التي يتعرّض لها السجين.
مع هذا فقد ترك السجن أثره الكبير على فكر باسم أسوة بجسده وروحه. لم يعد باسم يلهث وراء التغييرات الحاصلة في الدنيا خارج جدران السجن، بل غرق في القراءة التي جعلته يذهب إلى الماضي بدل متابعة الحاضر. وهنا صار باسم أسيرًا مرّة أخرى!
فالأسر ليس فقط أسر الجسد وحبسه في زنزانة، بل هو أسر الروح والفكر وحبسهما داخل التاريخ. لو أنّ باسمًا عارك الحياة في الخارج واكتسب خبراته من الواقع وليس من الكتب لاختلف موضوع روايته، كما ستختلف المعالجة والحوادث.
لو قُيّض له أن يكون حرًّا لن يكتفي بالقراءة فأكثر ما يتكئ عليه الروائي هو خبراته الجسدية والروحية ومعارفه المجتمعية قبل قراءاته. القراءة قد ترفد الروائي بمعلومات تعمّق نظرته للأمور لكنّها لا تعطي السرد حميميته المطلوبة.
رواية مسك الختام
نتيجة الغوص في التاريخ وتعقب الحوادث التاريخية جعلت باسمًا يحلّق بروحه عبر الزمن ويعيش داخل الكتب التي يقرؤها. وقاده ذلك إلى التفكير بلغة التاريخ ومنطقه، وجعله يقرر إعادة كتابة حدث تاريخي بطريقة روائية. أمّا لماذا اختار باسم حياة الخيزران والدة هارون الرشيد لتكون محور روايته “مسك الختام” فقد نستطيع إرجاع ذلك إلى سهولة بناء رواية تحفل بالحوادث المشوقة والتغريب وتترك مجالًا للمخيلة للخوض في تفاصيل الحياة الداخلية المثيرة للجواري والحريم في قصور سلاطين وأمراء وحكّام العباسيين.
التاريخ حافل في تلك الفترة بالمكائد التي حاكها الحكّام لبعضهم من أجل الوصول إلى العرش. وأحداثه تجري بتسارع عجيب تلونها المساحة الجغرافية الشاملة للمدن والصحراء وتنوع الطبيعة وطباع البشر بين عرب وأعاجم، وبين بدو وحضر، وبين خيام وقصور، وأيضًا بين مالك ومملوك.
اختار باسم هذه الفترة من التاريخ؛ لأنّها أتاحت له الفرصة ليتدخل مبتدعًا عالمًا مثيرًا للقارئ يحمله بعيدًا عن واقعه المأساوي. لا شكّ أنّ الواقع الروائي مليء أيضًا بالجرائم والخطف والمكائد والقتل، لكنّه يبقى عالمًا متخيّلًا بالنسبة للقارئ يلوذ به لساعات أثناء القراءة ويستمتع بتفاصيله، وليس عالمًا واقعيًّا بائسًا يعيشه بتفاصيله المحبطة.
الإغراب في اللغة
لم يقتصر تأثير القراءات في التاريخ على موضوع الرواية وتفاصيل أحداثها المثيرة، بل طال اللغة أيضًا. لغة الرواية تراوحت بين الشعر والسرد، ولكنّها كانت غرائبية في المجمل.
ونتيجة التغريب جنح الروائي أحيانًا إلى استخدام عبارات لا تستقيم وطبيعة اللغة العربية حتّى إنّ القارئ أحيانًا يشعر بأنّ اللغة تستغلق عليه، ولا يستطيع فهمها، ولا يستطيع معرفة المقصود منها! فأن تكتب عبارة شعرية لا تصل إلى القارئ فذلك ليس إعجازًا في الكتابة، بل هو فقرٌ في إيصال الصورة التي في مخيلتك أو الشعور الذي ينتابك كمبدع يجب أن يكون همّه الأوّل الوصول إلى قلب القارئ والاستحواذ على مشاعره بالدرجة الأولى وإقناعه بمنطق الحدث الذي يسرده بالدرجة الثانية. القارئ اليوم لا وقت لديه ليتابع على مهل وبدقة كل “عبارة” وصورة شعرية يقدمها الروائي. فهو لن يحمل معجمًا ليفكّ شفرة الكلمات ويفهم الصّورة المقصودة من ورائها. مثال على لغة الرواية:
“أهو التاريخ لا أمّ له هو المتغطرس بذكوريته وانتفاخ هيبته الزائفة؟ أم المرّاقون الذين يصفقون برقِّهم وأسفارهم لرجل الأمر وصاحب المقام الأعظم؟”، “لم تعد تذكر الأسى وتطيّبها بالحزن وخذلان الحرير لها، فالمشتهى قد حلّ عليها الآن بقسم الدماء ومواثيق البراءة وهلاك الحرير والسرير، فكلّ ما أهرق وسفك وانتهك فيها لم يذهب هباءً منثورًا على جسدها البالي، زلزلتها وخرابها وأسرتها الذاوية ونحيب أصلها وذلها وإذلالها واقتفاء الموت المدبر لأثرها. كله، كله يحتشد الآن متحلقا حولها ساجدا لهيبتها”.
قد يشفع لباسم في تغريبه ذاك تلك القضبان القابضة على روحه وجسده، ومسيرة تحدي الواثق بأنّه يستحق الحياة والحريّة، وسعيه للتغلب على ظروف الاعتقال وتحدي سجّانيه.
المصدر : الجزيرة مباشر