بعد ماتبين في الحلقة الأولى الوعيد المغلّظ على الكتمان من الكتاب والسنة، حَقٌ على كل من ينتسب إلى العلم من أهل الإسلام أفراد وجماعات، مجالسَ علمية ومجامعَ فقهية، وكِيانات دعوية - على كل أحد أن يسائل نفسه: هل أدى ما عليه وأبرأ ذمته وبذل ما أوجبه الله عليه، لِيَنجوَ من اللعن والطرد من رحمة الله، والمقت والغضب، ودخول النار المتوعد به على الكتمان؟
للإجابة عن هذا، ليسأل أهل العلم أنفسهم عن حَدَثَين اشتد الكرب فيهما على بلاد المسلمين في الأعوام الأخيرة:
الأول: زيادة معاناة أهل فلسطين وتسلط العدو الصهيوني عليهم بوحشية غير مسبوقة، هدمٌ للبيوت، وتهجير لأهلها، واستيطان، وحصار، وانتهاك قدس المسلمين ومسجد حرمهم الشريف، واعتداء على المصلين فيه بهمجية وعنصرية بغيظة، وكذلك الاعتداء على مخيمات الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، بالطائرات والراجمات دون رحمة ولا إنسانية.
إزاء هذا الإجرام الصهيوني على مقدسات المسلمين، فإن ما تلاقيه المقاومة الفلسطينية وشبابها في غزة والقدس والضفة من العدو هو جهاد يقوم به أهل فلسطين نيابة عن المسلمين جميعا في بقاع الأرض، لأنه عندما يحتل العدو أرضا من بلاد المسلمين يصير الجهاد فرض كفاية يخاطب به كلُّ مسلم، ويسقط إذا حصلت الكفاية بالبعض، وإذا لم تحصل الكفاية كما هو الحال في فلسطين، فإن الفرض يتعين في أعناق المسلمين جميعا بالمال وبالرجال إلى أن تحصل الكفاية، والمقاومة في الأرض المحتلة مُضيق عليها محاصرة، ولا تجد الكفاية لضرورات الحياة المعيشية، فضلا عن أن تقاوم العدو وتخرجه، والمسلمون في أصقاع الأرض وإن كانوا لايقدرون على مد المجاهدين في فلسطين بالرجال، للحدود المصطنعة التي تحول دون ذلك، فإنهم يقدرون على مدها بالأموال، فهي تحتاج إلى أموال طائلة كثيرة لتكون فعّالة، لأن السلاح وأخذ العُدة يحتاج إلى أموال ضخمة وميزانيات دول، كان الواجب على الحكومات في بلاد الإسلام أن تقوم بها، ولكنهم للأسف تخلوا عن ذلك إرضاء لأعدائهم، وتركوا المجاهدين تحت رحمة عدوهم.
والواجب - إذ تخلت الحكومات - أن تغني الشعوبُ المسلمةُ المجاهدين القائمين بالفرض نيابة عنهم، وتوفر لهم من الأموال ما يغنيهم ويُعدون به العدة، فإنه لا يجوز للمسلمين أن يتركوا المقاومة تتسوّل ماتدفع به العدوَّ نيابة عنهم، بل المسلمون هم من يجب عليهم أن يسعوا إلى جمع الأموال العظيمة وتقديمها للمجاهدين، وهذا ليس تفضلا مندوبا إليه ومنة منهم، بل هو فرض عليهم في أعناقهم، من فروض الإسلام.
فهل قام العلماء بواجبهم في استنهاض همم مليار ونصف من المسلمين، وبينوا لهم الأحكام، وخرجت لهم الفتاوى الجماعية من مختلف مجالس علمائهم في بلدانهم، ومن مجامعهم الفقهية، وتجمعاتهم العلمائية والدعوية، تبين لهم أحكام الإنفاق في سبيل الله، وترتيب الأولويات فيه، وأن دفع المال للمقاومة في فلسطين هو عليهم من فرائض الدين على الأعيان حتى تتحرر فلسطين، وأن تركه إثم، وهو مقدم، وأكثر أجرا على كل إنفاق في وجوه البر والمستحبات الأخرى التي اعتادوا الإنفاق عليها بسخاء، كإنفاقهم على نوافل الصدقات؟!
هذا هو البيان الذي لم يقم به العلماء بعد، إذ لا يخطر في بال عامة المسلمين في هذا الوقت إذا أرادوا الإنفاق لتحصيل الأجر كتحبيس الأحباس وغيرها من القرب، أمرَ الجهاد بالمال لتحرير المقدسات، وإذا خطر على البال عند بعضهم، فإنه لاينال الجهادَ من إنفاقهم إلا القليل، وهذا يرجع إلى الجهل بفقه الأولويات وتقصير أهل العلم في بيانه، فكم مَن يحج أو يعتمر للمرة العاشرة أو العشرين، وينفق على ذلك الأموال الطائلة هو ومن يعولهم، في رحلات أقرب إلى السياحة منها إلى العبادة، وكم ممن يشيدون المساجد الزائدة عن حاجات المسلمين، وينفقون عليها الملايين!
فهذا عند عامة الناس هو الذي تسبق إليه الأذهان عند العزم على القرُبات، ولاشك أن فك أسير من العدو، أو رفع ظلم عن مظلوم واحد في سجون الظالمين، هو أفضل من بناء المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة المشرفة وعظمها وعظم قدرها ثم قال يخاطبها: (ولكن المؤمن أعظم حرمة منك، حرم الله منه ثلاثة: دمه وماله وعرضه).
والإنفاق في سبيل الله وبخاصة كما في الإنفاق على المجاهدين في فلسطين، أعظم أجرا مما ذكر من التطوع بالعمرة والحج وبناء المساجد، فإن هذه وإن كان مرغبا فيها، فإنها لاتزيد عن كونها مندوبات ومستحبات، ودعم المجاهدين في فلسطين بالأموال من الواجبات وفرائض الدين، والله تبارك وتعالى يقول في الحديث القدسي: (وما تقرب إليّ عبدي بأفضل مما افترضته عليه).
فمن يرى أن الإنفاق على مستحبات الحج والعمرة أو غيرها أكثرُ أجرا مما يتخلى عنه من الإنفاق على الجهاد الواجب، هو يرد على الله قوله، ومتبع لما تشتهيه نفسُه، متحكم على من يعطي الأجر، وهو الله، الذي بين له الأجر وبين له أعظمه، وإذا رجعنا إلى أحباس الصحابة الكرام مثل عمر وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وغيرهم نجد مصارفها جميعا يتقدمها قولهم: في سبيل الله، ولم نجد في أحباس واحد منهم أنه كان في بناء مسجد، لأن فقه الأولويات أُخذ عنهم، فسبيل الله أعظم ما ينفق فيه المال، وإذا لم يرفع ويُعظم أمر سبيل الله بين المسلمين وضَعفوا أمام أعدائهم، دُنِّست المساجد وإن شُيّدت، وأُذل أهلها، كما يفعل الصهاينة اليوم بالمسجد الأقصى المبارك وحرم الله الشريف.
فانظروا ما ترتب عن تخلي العلماء عن البيان من إضرار وذل وهوان!
الحدث الثاني، الذي اشتد الكرب فيه على المسلمين في الأعوام الأخيرة، وعلى العلماء أن يراجعوا أنفسهم عما قاموا به حوله من البيان - هو ما تعرضت له البلاد العربية من تدمير وخراب بعد الثورات التي حصلت فيها على المستبدين المضيعين للدين من حُكامها.
لاشك أن المخطط والمدبر لتدميرها هم أعداء الدين، لكن المنفذ والمباشر هم مِن بني جلدة المسلمين، من ذلك ما فعلت الإمارات والسعودية ببلاد اليمن، حرب طاحنة استمرت سنين إلى أن سوت بعض مدنها بالأرض، وأتت على الأخضر واليابس، وتركت الفقر والأمراض والدمار الذي تحتاج اليمن إلى أن تقوم منه إلى عشرات السنين إن قدّر الله لها القيام، وكذلك فُعل بالعراق وبسوريا أو أشد.
وفي ليبيا، سلط العدو عليها حفتر، وأمروا الإماراتيين والسعوديين بدعمه، فمدوه بالأموال والسلاح والطائرات والمرتزقة، وكذلك هم يفعلون الآن ببلاد السودان، ودمروا قبل ذلك مصر بالقوة الناعمة، فانهارت، ولما نجح معهم الدمار الناعم في مصر، ألحقوا بها تونس على الطريقة نفسها، فهي الآن تنهار.
هذه أمم وبلدان بأكملها انظروا ماذا صنع العدو الداخلي والخارجي بها، دمرت كلها وأطيح بأهل العدل فيها بعد الثورات التي قامت بها، لتتحول إلى طوق يحرس ويُؤَمِّن الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة.
ومن ينتسبون إلى أهل العلم في هذه البلاد التي دمرت وغيرها، يُعدون بعشرات الآلاف، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وحده يضم أكثر من سبعين ألفا منهم، والمباشر لهذا الإجرام الذي أخلى هذه البلاد وخرّبها والمدبر لها معروف، فهل تكلم العلماء بقوة وقالوا للظالم أنت ظالم، وأخذوا على يديه، ووقفوا مع المظلوم ونصروه؟!
إذا لم يقم العلماء بواجب الجهاد بالبيان والكلمة في هذا لقمع الظالمين ونصرة المظلومين ولم يتكلموا، فمن يتكلم؟!
فسبيل الله وإن كان المتبادَر منه بذل الأرواح في قتال العدو بالسلاح، فهو في الحقيقة يشمل أيضا جهاد العدو بالمال، والتحريض على قتاله، وكلَّ ما فيه إظهارُ الحق ونصرةُ الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) والإنفاق على سبيل الله بهذا المعنى يشمل كل أمر يقوم به الدين، وتُحفظ به بيضة المسلمين، من إحقاق الحق، وإبطال الباطل، والأخذ على أيدي الظالمين، ورد كيد المفسدين.
فكل ذلك من سبيل الله، الذي تهون فيه النفوس، والموت فيه شهادة، وتُبذل فيه الأموال للجهاد، قال الإمام مالك رحمه الله تعالى مشيرا إلى هذه المعاني في قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم)، قال: (سُبُل الله كثيرة، وما من سبيل إلا ويقاتَل عليها وفيها ولها)، ولذلك لما سئل عن جماعة من أهل البادية في البلاد المغربية كانت لهم شوكة وعصبية لقبائلهم، تَغِير على الناس بالقتل والخطف والحِرابة، وقيل له: هل يجوز قتالهم؟ قال: قتالهم أحبُّ إليّ من قتال اليهود والنصارى.