الضفة- مراسلنا
خرج من منزله في الخامسة والثلث فجراً إلى المسجد القريب لأداء صلاة الفجر، ثم عاد وحمل حقيبته وتوجه إلى مدرسته وبعدها إلى الصالة الرياضية.. لم يكن يعلم أن هذه الخطوات هي الأخيرة في حياته، فمجموعة شبان اختطفته وقتلته بعد انتهائه من التدريبات الرياضية ووضعت فوق جثته إطارات سيارات وأحرقتها.
تلك الجريمة بحق الطفل المتفوق قيس أبو صيام (16 عاما) من مدينة رهط في الداخل المحتل والتي وقعت قبل أيام ليست الأولى ولم تكن الأخيرة، فمدن الأراضي المحتلة تكثر فيها الجرائم وترتفع فيها نسبة العنف خاصة بين الفلسطينيين.
وكانت شهدت مدينة اللد المحتلة عدة جرائم قتل جنائية في فترة قصيرة لا تتجاوز أربعة أيام، ولا يكاد ينتهي الحديث عن جريمة ما حتى يفاجأ السامعون بتنفيذ جريمة أخرى، الأمر الذي يبعث الشكوك على وقوف أياد خفية وراء ذلك.
حقائق
سجلت السنوات الأخيرة ارتفاعا ملحوظا في معدلات الجريمة في أوساط المجتمع العربي الفلسطيني، ففي عام 2009 مثلاً ارتفع معدل الجريمة بنسبة 8.4% مقارنة بالسنوات السابقة، وقُتل 120 على خلفية جنائية منهم 80 عربيا، من ضمنها 9 عمليات قتل ضد نساء "حيث في نفس العام قتلت 3 نساء يهوديات".
وتنتشر مظاهر العنف في زوايا ومناطق مختلفة من المدن العربية، في العائلة والشارع وبين البالغين وفي المدارس، وتمس شرائح اجتماعية مختلفة من الشباب والأطفال والنساء والشيوخ، وإن تبدو هذه الممارسة السلوكية غير السوية في بقية "المجتمعات الطبيعية" ظاهرة اجتماعية وكإفراز للتناقضات الاجتماعية والاقتصادية التي تعرفها، فإنها لا تبدو كذلك بالنسبة لمجتمع يعيش تحت الاحتلال، فالسكان العرب الفلسطينيون الأصليون الذين يعيشون في أراضي 48 يتعرضون إلى عنف ممنهج متعدد الأبعاد والغايات، سواء من قبل السكان اليهود الصهاينة أو من قبل الإدارة والجهاز الأمني الإسرائيلي.
وتؤكد مؤسسات حقوقية أن العنف يتخذ طابع الحدة والشمولية أحيانا، ولكنه في الغالب يسري في ثنايا الحياة اليومية للسكان الأصليين في علاقاتهم مع الآخر، بل في كل الأشياء المفروضة ضد إرادتهم وكرامتهم وثقافتهم مما يؤدي إلى انتقال تلك الممارسة الاستعمارية الصهيونية اليومية العنيفة في اللاوعي العربي الجماعي بالضرورة.
أسباب
تختلف أسباب انتشار العنف وتتفاوت حسب المجتمعات والمناطق الجغرافية والمتغيرات الاقتصادية والسياسية والثقافية، غير أنها تبدو ذات خصوصية وطبيعة نوعية في أوساط فلسطينيي الداخل، إذ من الضروري البحث عن كيفية ردّ فعل المؤسسات الردعية المختلفة للحكومة هناك بدءا من القوانين المعتمدة إلى العاملين في مختلف أجهزة الضبط والعقاب من أعوان الشرطة ورجال القضاء وسلوك كل هؤلاء تجاه العرب الفلسطينيين الخارجين عن "القانون" وتجاه ممارساتهم.
وفي هذا يقول نائب رئيس الحركة الإسلامية الشيخ كمال الخطيب لـ"الرسالة نت" إن الأسباب تتفاوت اجتماعياً واقتصادياً وذهاب بعض الشباب لمحاولة الوصول للمال بطرق سهلة وسريعة عبر المخدرات وترويجها مما يقود إلى خلافات بين الأفراد، ولكن الأبرز هو انتشار السلاح والذي تقف خلفه دون شك سلطات الاحتلال، وهذا ثبت داخل الوسط العربي.
وأوضح الخطيب أن سلطات الاحتلال تريد نشر السلاح بين الفلسطينيين لبث الفتنة عبر سهولة استخدامه لأي سبب مما يؤدي إلى القتل والثارات والخلافات العائلية وتفكك المجتمع الأمر الذي يجعل منه لقمة سائغة في يد الاحتلال لأنه يصبح ضعيفاً، مبيناً أن من لا يملك السلاح يسعى للوصول إليه بأي طريقة فيأتي دور شبكات الأمن والمخابرات الإسرائيلية التي تجعل من هؤلاء عيوناً لها عبر إعطائهم السلاح بثمن بخس.
وأضاف:" نحن عندنا إجماع على هذا، والمستغرب والمستهجن أنه في الوقت الذي تحدث فيه عمليات إطلاق نار تجاه شرطة الاحتلال في قضايا أمنية يتم الكشف عن منفذها خلال أيام قليلة ولكن مع الأسف تحدث جرائم قتل جنائية بين الفلسطينيين وتمر سنوات ولا يتم الكشف عن القاتل، لأن المؤسسة الإسرائيلية تريد أن تستمر دوامة العنف والخاسر نحن بالطبع".
إذاً فالسياسة الصهيونية الرسمية تجاه الفلسطينيين في الداخل تستند إلى التمييز العنصري على أساس قومي وديني، والتي تطال كافة مجالات حياة الفلسطينيين، كما أن انتشار ثقافة العنف التي تجتاح المجتمع الصهيوني والتوتر السياسي والأمني اليومي المتواصل وكافة الممارسات القمعية والحروب التي خاضتها وتخوضها "إسرائيل" ضد الفلسطينيين والعرب عامة تجعل حياة هؤلاء مشحونة بالإحباط والغضب، وهو ما يشكّل أرضية خصبة للعنف والانحراف، ومن رحمها تتناسل بقية العوامل كضعف الوازع الأخلاقي والقيمي نتيجة التدهور الذي عرفته قيم المجتمع، وخاصة تراجع سلطة العائلة على أبنائها.
وتؤكد شبكة "أمان" المجتمعية على أن سلطات الاحتلال تتحمل بكامل أجهزتها مسؤولية مباشرة في توالد مظاهر العنف وانتشاره، ففي الوقت الذي ينصبّ اهتمام الإدارة على أمن اليهود وأحيائهم تُهمل أمر أمن "المدينة والأحياء العربية" الاجتماعي ولا تهتم إلا بما يتعلق بالنشاط السياسي.
وأوضحت في تقرير أصدرته عام 2010 أن الاحتلال لا يعالج قضايا الإجرام والعنف في البلدات والمدن العربية بنفس الأسلوب والطريقة التي تتم بها معالجة هذه القضايا في البلدات والمدن التي يحتلها المغتصبون، مبينة أن الشرطة الصهيونية تتهاون في معاقبة المجرمين والمنحرفين من العرب وغالباً ما تغلق الملفات وتقيد الجرائم ضد مجهول.
وتشير بعض المعطيات الإحصائية إلى أن 62% من السجناء الجنائيين يعودون إلى دائرة الجريمة وإلى السجن بعد إطلاق سراحهم، ولهذا ليس صدفة أن المعطيات الرسمية تشير إلى أن نسبة العائدين إلى دائرة الجريمة تنخفض سنويا في الدول المتطورة، في حين تواصل ارتفاعها في الداخل، إذ ارتفعت هذه النسبة من 58% إلى 62% بين 2007 و2009.
من جهته يؤكد العضو العربي في الكنيست الصهيوني محمد بركة أن أول سبب لارتفاع الجريمة في الداخل هو الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السيئة التي هي نتاج سياسة تمييز عنصري، كذلك فإن هناك انطباعا بأن جهات تطبيق القانون ليست حازمة في مهمة اقتلاع الجريمة طالما هي في داخل الشارع العربي.
"الله يسامحك"
وأمام انتشار هذا الداء تجندت القوى الوطنية والإسلامية العربية لمواجهة هذا الوباء الخطير الذي ينهش فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، وضمن هذا الإطار تبذل الحركة الإسلامية في الداخل المحتل جهدها الواسع للحد من ظاهرة العنف ولتفويت الفرصة على سلطات الاحتلال بتحويل المجتمع الفلسطيني إلى نسيج ممزق يسهل اختراقه.
ويقول الخطيب إن الحركة تنظم زيارات للمنازل العربية وتطلق حملات إعلامية ودعوية تساهم في توعية المجتمع حول ضرورة عدم اللجوء إلى العنف، وحاليا تسير حملة "الله يسامحك" التي نظمتها الحركة استكمالاً للحملات السابقة في هذا المجال، مبيناً أن هناك محاولة للوصول إلى المدارس واللقاء مع الطلبة في المراحل الثانوية حيث أنهم الأكثر ميلاً لنزعات العنف.
ويتابع:" هذا لا شك يقودنا للإدراك بأنهم يحتاجون لتوجيه عبر الوصول إليهم ليس فقط الحديث من بعد، الاحتلال هو المستفيد ونحن كحركة إسلامية نعتز أن لنا دور في التقليل من ذلك، صحيح أننا نهتم للقدس والأقصى ويشغلنا الهم العام ولكن دون أن يغيب عن بالنا أن شبابنا يجب ألا يزج به في دوامة العنف أو يُسرقوا منا، هذا هو المشروع الكبير الذي نقوم به، نعتز بوجود مؤسسات شبابية تحاول أن تساهم عبر مشاريعها الدعوية مثل جمعية إقرأ للطلاب الجامعيين أو سند التي تعنى بالتواصل مع القطاع النسائي من أجل تربية سليمة".
ويرى الخطيب أن مثل تلك الحملات تساهم بشكل ملموس في ترك آثار إيجابية في نفوس الشبان والنساء والشيوخ في الداخل، لأن الخطاب الدافئ والعقلاني يصل إلى معرفة وإدراك بأن العنف وسيلة ضدنا وليس لصالحنا.