في عدوان الاحتلال "الهمجي" على الآمنين في قطاع غزة والتنكيل بهم عبر الاعتقال والتعذيب وارتكاب الفظاعات مع مضي 7 أشهر على الحرب، حفرت حربه مشهدًا دمويًا لاعتداءاته في ذاكرة الفصول، لا سيما تجاه الأسرى والمعتقلين.
حيث وثقت شهادات أدلى بها أطباء "إسرائيليون" وأخرى لأسرى مفرج عنهم، عن فظائع سادية لا مثيل لها على مر التاريخ، تتمثل ببتر أطراف وحرمان كامل مع الغذاء والدواء، حيث رحل العشرات من المعتقلين في غياهب المعسكرات السرية أشبه بـ "غوانتاناموا" إسرائيلي، دون معرفة ظروف وفاتهم وما كابدوه من ظلم وتعذيب.
وفي تحقيق جديد، كشفت شبكة "سي إن إن" الأميركية عن جوانب من الانتهاكات التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد أسرى قطاع غزة المحتجزين داخل مركز اعتقال سري في صحراء النقب.
وقالت "سي إن إن" إن شهادات 3 إسرائيليين ممن عملوا هناك كشفت أن المعتقلين الفلسطينيين يعيشون ظروفًا قاسية للغاية في قاعدة عسكرية أصبحت الآن مركز احتجاز في صحراء النقب.
ونقلت عن أحدهم قوله إن الروائح الكريهة تملأ مركز الاعتقال الذي يحشر فيه الرجال معصوبي الأعين، ويمنعون من التحدث والحركة.
وقال إن الأطباء في مركز الاعتقال يقومون أحيانا ببتر أطراف السجناء بسبب الإصابات الناجمة عن تكبيل أيديهم المستمر، والإجراءات الطبية التي يقوم بها أحيانا أطباء غير مؤهلين، حيث يمتلئ الهواء برائحة الجروح المهملة التي تركت لتتعفن.
وتحدثت "سي إن إن" مع الثلاثة الذين عملوا في مركز الاعتقال "سدي تيمان" الصحراوي، وقد تحدثوا جميعًا علنًا، معرضين أنفسهم لخطر التداعيات القانونية والأعمال الانتقامية.
ووفقا للروايات، فإن المنشأة التي تقع على بُعد حوالي 18 ميلًا من حدود غزة، مقسمة إلى قسمين؛ حاويات يوضع فيها حوالي 70 معتقلًا فلسطينيًا من غزة تحت قيود جسدية شديدة، ومستشفى ميداني يتم يه ربط المعتقلين الجرحى إلى أسرتهم، وهم يرتدون حفاظات.
وقال أحد المصادر، والذي كان يعمل مسعفًا في المستشفى الميداني: "لقد جردوهم من إنسانيتهم".
وأضاف مصدر آخر، أن الجنود الإسرائيليين استعملوا الضرب مع المعتقلين، ليس لجمع المعلومات الاستخبارية، وإنما هو عقاب على ما فعله الفلسطينيون في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وعكست شهادات معتقلي غزة المفرج عنهم، وآثار التّعذيب الواضحة على أجسادهم، مستوى الجرائم والتّوحش الذي ينفّذه الاحتلال بحقّهم، من بينهم معتقلون استشهدوا جرّاء عمليات التّعذيب والجرائم الطبيّة، ولم يكشف الاحتلال حتى اليوم عن هوياتهم وظروف احتجازهم.
ويواصل الاحتلال "الإسرائيلي" تنفيذ جريمة الإخفاء القسري بحقّ معتقلي غزة بعد مرور217 يومًا على العدوان والإبادة الجماعية، إذ يرفض الاحتلال تزويد المؤسسات الحقوقية بما فيها الدّولية والفلسطينية المختصة أي معطى بشأن مصيرهم وأماكن احتجازهم حتّى اليوم، بما فيهم الشهداء من معتقلي غزة.
فظائع أشدّ من "غوانتنامو"
تتكشف مستوى الجرائم المرعبة بحقّ معتقلي غزة تصاعديًا في معسكرات الاحتلال، وتحديدًا معسكر (سديه تيمان)، وتشكّل المعطيات الحد الأدنى من مستوى الجرائم المتواصلة بحقّ معتقلي غزة، وذلك في ضوء استمرار جريمة الإخفاء القسري بحقّهم، منذ بداية العدوان والإبادة الجماعية.
وشكل معسكر (سديه تيمان) بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، عنوانًا بارزًا لعمليات التّعذيب غير المسبوقة بكثافتها، خاصّة أنّ معظم الجرائم التي كُشف عنها، ارتبطت باسم هذا المعسكر، وكان آخرها ما كشف عنه الإعلام العبري، عن تفاصيل مروعة وجرائم طبيّة يتعرضون لها المعتقلون المرضى والجرحى في إحدى المنشآت التابعة للمعسكر.
وأشار مرصد حقوقي إلى أن معسكر "سديه تيمان"، الذي يديره الجيش "الإسرائيلي"، ويقع بين مدينتي بئر السبع وغزة، ويُحتجز فيه غالبية المعتقلين من قطاع غزة، "تحول إلى سجن غوانتنامو جديد تمتهن فيه كرامة المعتقلين وتمارس بحقهم أعتى أشكال التعذيب والتنكيل في ظل حرمانهم من الطعام والعلاج".
كما وأفاد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بأنه تلقى شهادات جديدة عن تعرض معتقلين فلسطينيين من قطاع غزة -بمن فيهم نساء وأطفال- لعمليات تعذيب قاسية ومعاملة تحط بالكرامة الإنسانية، بما في ذلك التعرية والتحرش الجنسي أو التهديد به، مطالبا بتحرك دولي عاجل لوقف تلك الانتهاكات.
ومن ضمن التفاصيل التي ظهرت في تحقيق نشره الإعلام العبري وفقًا لشهادة أحد أطباء الاحتلال، أن معتقلين تعرضًا لعملية بتر في أطرافهما، جراء إصابات نتجت بسبب عمليات التقييد المستمرة بحقهما، حيث يُبقون المعتقلين المرضى إلى جانب عمليات التقييد المستمرة لأطرافهم، معصوبي الأعين.
هذه الشهادة تأتي بعد فترة وجيزة من الكشف عن استشهاد 27 معتقلاً من غزة في معسكرات الاحتلال نتيجة للتعذيب والجرائم الطبيّة، دون الكشف عن هوياتهم، وهو كذلك مؤشر لاحتمالية أنّ يكون أعداد الشهداء أعلى.
التّخوف الأكبر، وفقًا لتقارير معنية بحقوق الأسرى، من كل ما يجري اليوم مع استمرار العدوان، هو أن تتحوّل جريمة الإخفاء القسريّ إلى نهج دائم فيما يتعلق بمعتقلي غزة.
وبحسب إفادات أسرى مُفرج عنهم، فإنّ 95% منهم يجهلون الأماكن التي كانوا يتواجدون داخلها طوال فترة اعتقالهم، فهم مكبلون بالأصفاد ومعصوبو الأعين طوال الوقت، ولا يُسمح لأي من المؤسسات الحقوقية أو اللجنة الدولية للصليب الأحمر الحصول على أية معلومات حولهم.
الإهمال الطبي سياسة "انتقامية"
وفي 4 أبريل/نيسان 2024، وصف طبيب "إسرائيلي" يعمل في مستشفى ميداني في منشأة يحتجز فيها جيش الاحتلال معتقلين من قطاع غزة، الظروف المأساوية التي يعيشونها، والتي وصلت إلى التسبب في قطع أطرافهم، مشيرًا إلى ارتكاب مخالفات قانونية ومهنية كبيرة.
وذكرت صحيفة هآرتس التي كشفت التفاصيل، أن أقوال الطبيب الإسرائيلي الذي يعمل في المستشفى الميداني في معتقل "سديه تيمان" في صحراء النقب وردت في رسالة بعث بها الأسبوع الماضي، إلى وزير الأمن الإسرائيلي ووزير الصحة أوروئيل بوسو، والمستشارة القضائية للحكومة غالي بهراف ميارا.
وجاء في رسالته: "في هذا الأسبوع فقط، خضع مريضان لبتر ساقيهما بسبب إصابة بدأت بسبب تقييدهما. وللأسف، نتحدث عن حدث روتيني".
وتابع الطبيب رسالته التي تحتوي على تفاصيل صادمة: "منذ الأيام الأولى لتشغيل المنشأة الطبّية وحتى اليوم، أواجه معضلات أخلاقية صعبة. والأكثر من ذلك، أكتب لأحذّر من أن خصائص أنشطة المنشأة لا تتوافق مع أي بند من البنود المتعلّقة بالصحة، في قانون سجن المقاتلين غير الشرعيين".
وأشار إلى أن المستشفى لا يتلقى إمدادات منتظمة من الأدوية والمعدات الطبية، وأن جميع المرضى المعتقلين مكبّلون من أطرافهم الأربعة بغض النظر عن مدى خطورتهم، وتتم تغطية أعينهم ويتم إطعامهم بالقش.
وأوضح أنه "في ظل هذه الظروف، فعلياً، حتى المرضى الشباب والأصحّاء يفقدون الوزن، بعد حوالي أسبوع أو أسبوعين من المكوث للعلاج".
وبحسب الطبيب، فإن أكثر من نصف المعتقلين المرضى في المستشفى الميداني، موجودون هناك بسبب إصابات تطوّرت أثناء الاعتقال، عقب تقييدهم المستمر. وقال إن القيد يسبب إصابات خطيرة "تتطلب تدخلات جراحية متكررة".
بتر يد معتقل بسبب تقييد يديه بأصفاد بلاستيكية
وبالإضافة إلى أقوال الطبيب، شهدت ثلاثة مصادر لـ"هآرتس"، لم تسمّها الصحيفة، أنه في بداية الحرب، بُترت يد أحد المعتقلين، الذي أصيب بسبب تقييد يديه بأصفاد بلاستيكية لفترة طويلة.
ونقلت "هآرتس" عن مصدر لم تسمّه أن العديد من المعتقلين في حالة بدنية سيئة. وقد أصيب بعضهم في المعارك أو في الحرب، وفي بعض الأحيان كانت جراحهم تتفاقم بسبب ظروف السجن وغياب النظافة فيه، فيما يعاني البعض الآخر من أمراض مزمنة.
وقال المصدر إنه لعدة أشهر منذ بداية الحرب، كان هناك نقص في أدوية علاج الأمراض المزمنة في المنشأة، وكان بعض المعتقلين يعانون من نوبات صرع طويلة. وبحسب المصدر، ورغم أن العديد من المعتقلين يعانون من مشاكل طبية، إلا أن معظمهم لا يعالجون في المستشفى؛ بل يبقون في الأقفاص ويتلقّون العلاج من قبل مسعفين وليس أطباء.
وقالت مصادر تحدثت إلى "هآرتس" إن تزويد أدوية الأمراض المزمنة ارتفع منذ ذلك الحين.
كما ذكرت المصادر نفسها أن أيدي العديد من المعتقلين كانت مقطوعة وملوّثة بسبب القيود. ويدعم ذلك صور المعتقلين الذين أعيدوا إلى غزة وتظهر فيها الجروح في أيديهم.
إعادة معتقلين للمنشأة مباشرة بعد خضوعهم لعمليات جراحية صعبة
وذكر الطبيب في الرسالة أن المعتقلين لا يتلقّون العلاج المناسب، حتى لو تم نقلهم إلى المستشفى، مؤكدًا عدم إبقاء أي مريض يجري تحويله إلى المستشفى لأكثر من بعض ساعات.
ويضيف: "يحدث أن مرضى بعد خضوعهم للعمليات جراحية كبيرة، مثل جراحات البطن لبتر الأمعاء، يعودون بعد حوالي ساعة من استيقاظهم (من العملية)، إلى المنشأة الطبية في سديه تيمان، والتي يعمل بها في معظم ساعات اليوم طبيب واحد، يرافقه فريق تمريض، بعضهم مؤهل كمسعف فقط. هذا بدلاً من إبقائهم للمراقبة في قسم الجراحة".
وبحسب قوله، فإن الطبيب في المنشأة قد يكون طبيب عظام أو طبيب نساء، "وينتهي الأمر بمضاعفات وأحياناً حتى بوفاة المريض".
وكتب الطبيب في رسالته للمسؤولين أن إدارة الأمور على هذا النحو "تجعلنا جميعاً، الطواقم الطبية وأنتم، المستوى المسؤول عنا في وزارة الصحة ووزارة الأمن، شركاء في انتهاك القانون الإسرائيلي، وربما الأسوأ بالنسبة لي كطبيب، مخالفة واجبي الأساسي تجاه المرضى، أياً كانوا، كما أقسمت عندما تخرّجت طبيباً قبل 20 عاماً".
وأقيمت منشأة الاعتقال سديه تيمان بعد بدء الحرب مباشرة، وكان الهدف منها احتجاز عناصر المقاومة، بمن فيهم من شاركوا في هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حتى يتم نقلهم إلى السجون.
وفي بداية الحرب، أقر "الكنيست" تعديلاً للقانون بشأن احتجاز المعتقلين، والذي يتضمن أيضاً تفاصيل الشروط التي من المفترض احتجازهم بموجبها.
ومنذ عملية الاجتياح البري إلى قطاع غزة، يتم جلب معظم المعتقلين الذين يصلون إلى منشأة الاعتقال من القطاع واستجوابهم، إلا أنه يتم إطلاق سراح العديد منهم بعد أن يتبين عدم وجود أي صلة لهم بالمقاومة. والقاعدة العامة في منشأة الاعتقال "سديه تيمان"، هي تقييد أيدي المعتقلين طوال ساعات اليوم وتغطية أعينهم.